لم ينتظر حراك مواطنون ضد الانقلاب نتائج المهزلة الانتخابية الأخيرة حتى يتأكّد بأنّ انقلاب 25 جويلية لم يكن تفويضا شعبيا بقدر ما كان استيلاءً على السلطة بالاستناد إلى أجهزة الدولة الصلبة لإغلاق قوس الانتقال الديمقراطي.
ويهمّنا، في سياق تطوّر مواقف الكثير من الأطراف التي ساندت الانقلاب وانخراطها اليوم في مناهضته وتحميله مسؤولية تفاقم الأزمة المالية الاقتصادية وعبثه بمؤسسات الدولة وتهديده الحريات والسلم الأهلي، أن نذكّر برؤيتنا في “مواطنون” وبالمبادئ الرئيسية التي قادت شارعنا الديمقراطي وكفاحه الميداني في مقاومة الانقلاب.
لقد كشفت أطوار الانقلاب، بعد أكثر من سنة ونصف، عن أنّ الأمر لا يعدو أن يكون اغتصابا للسلطة وإيقافا للمسار الديمقراطي وثأرا من ثورة الحرية والكرامة. وعلى عكس مزاعم أنصار الانقلاب وأدعياء “مسار 25 جويلية”، لم يشهد يوم الانقلاب تفويضا شعبيا لقيس سعيد لإنهاء المسار الديمقراطي وإغلاق البرلمان وحلّ الحكومة.
لقد كان واضحا، منذ صباح الانقلاب، أنّ الأمر تحريض وتعبئة قادتهما بعض وسائل الإعلام، ولم يخرج للشارع سوى بضع مئات، في كامل البلاد، مرّ بعضُهم إلى البلطجة والترهيب بمداهمة مقرات حزبية لحركة النهضة تمهيدا لإعلان ساكن قصر قرطاج ليلا قرار تفعيل الفصل 80 عبر تأويل انقلابي فجّ مسنود من الأجهزة الصلبة للدولة أغلق باب البرلمان بدبابة.
لقد كان انقلاب 25 جويلية تتويجا لكلّ المؤامرات الناعمة والدموية التي استهدفت مسار الانتقال الديمقراطي، وقد اتخذت في برلمان 2019 شكلا مؤسساتيا تحت سقف الديمقراطية، فتكفّلت الكتلة النيابية الفاشيّة ورافدها الوظيفي بترذيل البرلمان وتعطيل دوره، وثابرت الشعبويّة في مؤسسة رئاسة الجمهوريّة، على استهداف الدستور وشّلّ المؤسسة التنفيذيّة. لتتكامل بذلك سياسة التعطيل والترذيل مستغلّة الأداء المتعثر للقوى الجديدة في عشريّة عجزت عن الإنجاز الاجتماعي والاقتصادي، مما أدى الى صمت شعبي مطلق لم يسند الديمقراطية ولا الانقلاب عليها.
أسقط حراك مواطنون ضدّ الانقلاب بأحزابه ومبادراته المواطنيّة ومثقّفيه وأكاديمييه، منذ انطلاقه في سبتمبر 2021، سردية التفويض الشعبي للانقلاب من خلال الوقفات المواطنية المتعاظمة. وتأكّد ذلك بالعزوف الشعبي عن المشاركة في الاستشارة والاستفتاء والانتخابات التي أنهته.
لقد أقام الحراك المواطني خارطة طريقه وأرضية مقاومته على قاعدة الانتصار لدستور 2014 وللمؤسسات الديمقراطية تأكيدا على أنّ جوهر الصراع بين الديمقراطية والانقلاب. وبناءً على هذا المبدأ فإنّ العنوان الرئيسي لنضال شارعنا اليوم هو أن تكون الشرعيّة الدستوريّة مرجعيّة لكلّ حلّ وطنيّ تشاركي. وعلى هذا الأساس نجدّد الدعوة إلى:
ـ التمسك بالنضال الميداني المقاوم طريقا إلى إسقاط الانقلاب، ومحاسبته سياسيا وقانونيا على كل ما اقترفه من هدم نسقي للمؤسسات الدستورية وترذيل للدولة وتخريب للإدارة وتفريط في السيادة، فضلا عن الاستهتار بالإرث الديبلوماسي والعبث بالمال العام وتجويع الناس وصولا إلى استهداف الحريات بالمحاكمات السياسية والإخفاء القسري والمنع من السفر وتشويه الخصوم.
ـ العمل مع شخصياتنا الوطنية وخبرائنا ومثقفينا وكفاءاتنا ومناضلينا لتجميع جهودهم في الندوة الوطنيّة للبديل الديمقراطي التي تمّ إقرارها في ملحمة إضراب الجوع التاريخيّة في السنة الماضية.
إنّ التمسّك بهذين المهمّتين النضاليّتين سيجعل من أنصار الديمقراطيّة طرفا مهمّا في الحلّ الوطني الشامل وجهة فاعلة في الترتيبات القادمة لإنقاذ الدولة والاقتصاد وإغلاق قوس الانقلاب وفق الضوابط التالية:
أوّلا: إنّ كلّ التوافقات والحلول الوطنية للخروج من الأزمة التي وضع فيها الانقلاب البلاد يجب أن تكون في إطار دستور 27 جانفي 2014 باعتباره الدستور الوحيد والشرعي للبلاد. و لا نرى خارطة طريق وطنية تُغلق فعليّا قوس الانقلاب ما لم تحترم كلّ بنود هذا الدستور دون أن تتناقض معها أو تُغفل بعضها أو تلتَفّ على بعضها الآخر.
ثانيا: وبناءً على ما سبق وجب التذكير بأنّ الفصل 84 من دستور 2014 يقضي في حالة الشغور النهائي لمنصب رئيس الجمهورية بأن يتولّى رئيسُ مجلس النواب مهامّ رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لمدّة أدناها 45 يوما وأقصاها 90 يوما يتمّ فيها انتخاب رئيس جديد للبلاد يتولى، بعد ذلك، حلّ مجلس النواب والدعوة إلى انتخابات رئاسيّة مبكرة. ويمكن للتفاوض الوطني أن يُجري ما أراد من تسويات سياسية ملائمة لتعديل تركيبة البرلمان الشرعي والتصرّف بمقتضى ذلك التعديل بما ينسجم مع روح الدستور.
ثالثا : إنّ مجلس النواب لا يزال قائم الصفة، وكان قرارُ حلّه من طرف قيس سعيد غير قانوني لعدم توفّر شرط وجود المحكمة الدستورية، ولمخالفة قرار الحلّ المُعلن يوم 30 مارس 2022، لما ورد في الفصل 89 والذي قيّدت فقرتُه 4 حلّ مجلس نواب الشعب بالإعلان عن انتخابات تشريعية في أجل أقصاه 90 يوما وهو ما لم يُؤخذ به. وبناءً عليه نعتبر أنّ مجلس النواب المنتخب سنة 2019 لا يزال قائما وشرعيا ومعطّلا عن النشاط وممنوعا من الاجتماع بالقوة القاهرة للدولة.
. رابعا: إنّ الانعقاد الشرعي والقانوني لجلسة البرلمان عن بعد يوم 30 مارس 2022 قد تمّ فيها إسقاط الأمر 117 الصادر عن قيس سعيد. وهو ما يجرّد كلّ القرارات والأوامر التي بُنيت عليه من كلّ شرعية بما فيها دستور 25 جويلية 2022 المزعوم. وعلى هذا الحدث بالذات ندعو تأسيس كلّ خطوات إنهاء الانقلاب والعودة إلى الشرعية.
خامسا: لا يخلو دستور 2014 من بعض الهنات، وإنّ مراجعته وتنقيحه أمر مشروع، على أنْ يتمّ ذلك وفق الآليات التي ضبطها هذا الدستور نفسه. وننبّه إلى خطورة إجراء أي استفتاء عليه أو على النظام السياسي للبلاد قبل إجراء الانتخابات التشريعية القادمة.
سادسا : إنّ الإطار الأمثل للحوار الوطني حول خارطة طريق من أجل إغلاق قوس الانقلاب يجب أن يكون محلّ إجماع. ولا نرى في القيادة الحالية للمنظمة الشغيلة ولا غيرها من منظمّات المجتمع المدني إطارا راعيا للحوار باعتبارها كانت طرفا في الصراع. وندعو جبهة الخلاص الوطني باعتبارها تمثل أكبر تجمع سياسي ومدني مناهض للانقلاب أن تتمسّك بضرورة توفير الإطار التوافقي لتنظيم الحوار الوطني حول خارطة الطريق و الاستحقاقات العاجلة للمرحلة القادمة ( مراجعة القانون الانتخابي، إعادة تشكيل الهيئة العليا لمراقبة دستورية القوانين أو الاتفاق حول صيغة لاستكمال تشكيل المحكمة الدستورية، مراجعة القانون الداخلي لمجلس النواب ووظيفته الحصرية والمؤقتة فضلا عن إعادة تشكيل الهيئة العليا للانتخابات، وصيغ عودة المجلس الأعلى للقضاء الشرعي لسالف نشاطه… الخ )
سابعا: إنّ احترام الشرعية الدستورية والقانونية في كلّ الخطوات القادمة للخروج من الأزمة الراهنة هو وفاء مستمرّ لتقاليد التسويات في سياقنا الوطني بعد كلّ ازمة. ولعلّ ما حصل في 2011 خير دليل على ذلك حين اجتمع مجلس نواب الشعب للنظام القديم وفوّض لرئيس الجمهورية بالنيابة فؤاد المبزّع صلاحية إصدار المراسيم قبل أن يتمّ حلّه بمرسوم من رئيس الجمهورية، وهو ما جعل من تونس فترة الحراك الثوري لا تقطع الصلة التي تربطها بالشرعية الدستورية، وجعل المسار السياسي الذي انطلق بعد ذلك يحظى بقبول ومساندة داخلية وخارجية.
الأمين البوعزيزي. منير الكشو. زهير إسماعيل. أحمد الغيلوفي. الحبيب بوعجيلة.
Be the first to write a comment.