اتفقت السعودية وإيران، برعاية صينية، على استئناف العلاقات الديبلوماسية المنقطعة بينهما منذ العام 2016، وعلى التنسيق في الملفّات الإقليمية ذات الاهتمام الأمني والسياسي المشترك.

وإذا كان من المبكر التكهّن بما سيُفضي إليه الاتفاق ومساراته التفاوضية الشائكة على أكثر من جبهة أو صعيد، فإنه من الممكن التوقّف عند مجموعة أسباب أنتجته وذكر العديد من التحدّيات التي تنتظره في الأشهر المقبلة.

العقوبات وانعدام الثقة

لعلّ أبرز ما يمكن إيراده في معرض الحديث عن خلفية الاتفاق هو ما استجدّ منذ سنوات في منطقة الخليج وفي علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية.

ففي الرياض، ثمة قناعة تترسّخ يوماً بعد يوم مفادها أن واشنطن لم تعد الحليف الأمين والراعي والحامي للحُكم السعودي واستقراره على النحو الذي كانته منذ الاتفاق الشهير في شباط/ فبراير 1945 بين الرئيس روزفلت والملك عبد العزيز على متن البارجة كوينسي وحتى بداية عهد الرئيس أوباما في كانون الثاني/يناير من العام 2009. ذلك أن الأخير آثر الإعلان تكراراً خلال حملته الانتخابية ثم تولّيه المسؤولية عن ضرورة إعادة النظر في السياسات الأمريكية في «الشرق الأوسط»، انكفاءً من العراق وتموضعاً إيجابياً تجاه إيران وتعديلاً لقواعد العلاقة مع السعودية. وتترجم ذلك بالفعل مفاوضاتٍ نوويةً مع طهران، وسحباً للقوات من العراق، وتراجعاً للصلات مع الرياض بالتزامن مع تراجع الارتباط الأمريكي بالنفط الخليجي (وتراجع مخزون الأخير كما مخزون النفط عامة في العالم). وكان لاندلاع الثورات والانتفاضات العربية بموازاة ذلك، في تونس ومصر ثم في ليبيا واليمن والبحرين، وصولاً إلى سوريا، أن أربك الأمريكيين في توجّهاتهم الجديدة ووضع السعوديين في مأزق كبير. فواشنطن تخلّت سريعاً عن حليفين لها (وللسعودية) هما بن علي ومبارك (ولو أنها فاوضت العسكريّين في البلدين، وخاصة في مصر، على معالم المرحلة اللاحقة لسقوطهما). وتدخّلت في ليبيا بدفع فرنسي أوروبي لم تمانعه السعودية لإسقاط القذافي، ثم اكتفت بانتقاد سحق السلطات في المنامة بمساعدة سعودية مباشرة للانتفاضة في البحرين.

في المقابل، بدت الأمور بالنسبة للأمريكيين والسعوديين على حدّ سواء أكثر تعقيداً في اليمن وسوريا. ففي الأولى، ثمة حدود برية حيوية مع السعودية، وثمة انقسامات داخلية قبلية وجهوية ومذهبية وسياسية لم يكن من الواضح ما قد ترسو عليه بعد «إقصاء» علي عبد الله صالح. وفي الثانية، ثمة تحالف وثيق مع إيران، وحدود مع إسرائيل والعراق وتركيا ولبنان وأسلحة كيماوية تُملي أولويات التعامل مع بشار الأسد في الكثير من العواصم في المنطقة والعالم. ثم هناك قطر، الصاعد دورها الإقليمي معزّزاً بتحالفها مع أنقرة، وبدور قناة الجزيرة العميق التأثير، وبقدرتها على التعامل مع تيار الإخوان المسلمين المتقدّم في أكثر من بلد. وهذه جميعها، تحدّيات تؤرق السعوديين وتسبّب «الإزعاج» للأمريكيين الذين لم يكونوا على استعداد للتعامل السريع والحاسم معها.

على أنها في نفس الوقت، دفعت واشنطن والرياض للتنسيق سورياً، كلّ لأسبابها. واشنطن لخلق مظلة عربية – دولية تتيح حلاً تفاوضياً بعد إضعاف النظام لدفعه «لتبديل سلوكه»، والرياض لمواجهة النفوذ الإيراني هناك واستنزافه ميدانياً. لكن الاتفاق النووي الأمريكي الإيراني من جهة، وتمدّد تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في العراق وسوريا وإعلانه الخلافة، والحرب الأمريكية عليه في البلدين من جهة ثانية، زعزعا التنسيق الأمريكي السعودي، وأظهرا حدود التفاهم الإقليمي بين واشنطن والرياض. ولم يتبدّل الأمر كثيراً رغم دعم أمريكا المحدود للتدخل العسكري السعودي في اليمن إثر سيطرة الحوثيين المُسلّحين من إيران على السلطة في صنعاء واحتلالهم أجزاء واسعة من البلاد.

ومع بدء عهد دونالد ترامب، كانت الأحوال قد تغيّرت جذرياً في المنطقة. فروسيا تدخّلت عسكرياً في سوريا لإنقاذ النظام المتهالك، مستفيدة من السلوك الأمريكي المكتفي بقصف «داعش»، من دون الدفع الجدّي بالتزامن مع ذلك، لإسقاط الأسد رغم استخدامه السلاح الكيماوي (خط أوباما الأحمر الوحيد). والثورتان المضادتان في مصر وليبيا بدعم إماراتي وسعودي كانتا قد أنهتا مفاعيل الثورتين هناك وأضعفتا تيار الإخوان المسلمين وأعادتا الأمور إلى سابق عهدها في القاهرة (مع قمع أوسع للمعارضين لحُكم عبد الفتاح السيسي) وإلى فوضى عارمة في الأراضي الليبية التي فشل فيها بناء حكم مركزي جديد. والحرب في اليمن تحوّلت إلى مستنقع للسعوديين وإلى تنافس مع الإماراتيين لبسط السيطرة على المناطق التي ضُرب الحوثيون فيها، مع بقاء الأخيرين ممسكين بالسلطة في صنعاء ومهدّدين دورياً لحقول النفط السعودية ولبعض المنشآت الإماراتية. وحزب الله الحليف الوثيق لإيران كان قد أمسك رسمياً بمفاتيح السلطة في لبنان عبر انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. وفوق ذلك، الأزمة مع قطر كانت قد أدّت إلى قطع معظم العلاقات الخليجية مع الدوحة والسعي السعودي-الإماراتي لعزلها…

والتعامل مع هذا كلّه لم يكن على أجندة الرئيس الأمريكي الجديد، الذي اكتفى بمقاربة المنطقة وفق معادلتين: إلغاء الاتفاق النووي مع إيران وفرض العقوبات عليها، ودفع الأنظمة العربية للتطبيع مع إسرائيل مقابل حمايتها أو الاعتراف ببعض مصالحها. وعلى الرغم من الارتياح السعودي للضغط الأمريكي المتجدّد على إيران، إلا أن الرياض التي صعد فيها نجم ولي العهد محمد بن سلمان حافظت على هامش مناورة عبر تأجيل التطبيع مع إسرائيل، وتفعيل التقارب مع روسيا والصين، وإظهار استقلالية نسبية عن واشنطن تأكيداً على استمرار الاعتراض على «الانعزالية» الأمريكية التي استهلّها أوباما ولم يشذّ ترامب كثيراً عنها رغم بعض التناقضات الموضعية مع سلفه والاختلاف في أسلوب الحكم وفي خصائص العلاقات مع «الحلفاء» و«الأعداء».

على أن وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض العام 2021 أعطى السعوديين انطباعاً أن هناك عودة قوية «للسياسية الأوبامية» إلى واشنطن تؤكّد تقييمهم للتغيّر الحاصل في أمريكا تجاههم. وهذا ما دفعهم للتقارب الإضافي مع الصين، المتحوّلة إلى المنافس الوحيد لأمريكا، اقتصادياً بالتأكيد، وسياسياً أيضاً في بعض المناطق، في أفريقيا وفي منطقة الخليج تحديداً.

والأرجح أن الرغبة السعودية في «ابتزاز» الأمريكيين وفي إظهار استقلالية متزايدة عنهم زيّنت للحُكم في الرياض القبول بمبادرة صينية تُطلق مسار تصالح مع إيران سيشمل مفاوضات حول اليمن وسوريا ولبنان والعراق، وحول الطاقة وأسعارها وحول منع إسرائيل من استخدام الأجواء السعودية إن أرادت قصف المنشآت النووية الإيرانية.

إيران من جهتها، تواجه أحوالاً متناقضة منذ أكثر من عقد. فرغم تقدّمها في العراق بعد الغزو الأمريكي وإسقاط صدام حسين، ورغم سيطرتها على أجزاء من سوريا وعبر حزب الله على السلطة في لبنان، ورغم نجاحها في إدخال السعوديين في حرب طويلة في اليمن وتطويرها قدراتها العسكرية وبرنامجها النووي، إلا أنها ما زالت تعاني من متاعب اقتصادية جمّة، ومن عقوبات لم تكن فترة رفع بعضها كافية لإنعاش عدد من القطاعات فيها. وهي إضافة إلى ذلك تواجه انتفاضات داخلية دورية، نتيجة الغضب الشعبي من القمع والفساد وأولويات الخارج على الداخل في السياسات والموازنات الرسمية، زادتها الثورة النسوية منذ أشهر تهديداً لدعائم الحكم وفلسفته ذاتها.

ويمكن اعتبار استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، وتصاعد العقوبات الدولية على موسكو بموازاة العقوبات على إيران نفسها، سبباً أساسياً دفع الأخيرة للمزيد من التنسيق مع الصين، والاتكال عليها لتصدير النفط والغاز، وللتبادل السلعي والتكنولوجي. وهذا بالطبع يمنح بكين القدرة على طلب «تنازلات» إيرانية إقليمية أو القبول بمبادرات تجاه أطراف مثل السعودية تعوّل الصين عليها أيضاً في مسائل الاقتصاد والأدوار الجيوستراتيجية في منطقة كانت «ملعباً خلفياً» أمريكياً غير بعيد عن أراضيها.

تحدّيات الملفات الشائكة

هكذا إذاً، تحوّل التوجّه نحو الصين والقبول بالمصالحة مع السعودية عنصر سعي إيراني لفكّ العزلة أو الطوق عن الاقتصاد، وعنصر ابتزاز سعودي لواشنطن وتخفيض للتوتر العسكري المكلف في اليمن. وأصبح مع ذلك وإضافة إليه عنصر تحدّ صيني جديد لسطوة أمريكا.
لكن المصالحة الإيرانية السعودية هذه (بعد جولات تفاوض في العراق وسلطنة عُمان خلال السنوات الثلاث الماضية)، ستلاقي في المقبل من الأشهر الكثير من الصعوبات. فإيران القوية ميدانياً في العراق واليمن ولبنان وسوريا، والمُنهكة اقتصادياً، والمقتربة من إنجاز مشروعها النووي (العسكري) وما يعنيه من تهديد بمواجهة مع إسرائيل، قد لا تقدّم أكثر من تجميد للصراع على حدود اليمن السعودية، مقابل رفض «التنازلات» في العراق وسوريا ولبنان التي لا تملك السعودية فيها أصلاً أي قدرة على تعديل موازين القوى. والثمن هو بالطبع منع إسرائيل من استخدام الأجواء السعودية عسكرياً، ووقف الحملات الإعلامية والتحريضية المتبادلة في المنطقة.

والسعودية من جهتها لا تستطيع الاكتفاء بتجميد الجبهة اليمنية إن كانت تزعم العودة إلى لعب دور إقليمي قيادي، تحضّر له منذ عامين عبر المصالحات مع قطر وتركيا والتميّز عن «التطرّف الإماراتي» (الآخذ بدوره بالتروّي منذ أشهر). فهي تحتاج للعب أدوار مؤثّرة في ساحات التوتّر وتحتاج إلى حضور سياسي مستديم فيها، ليس من المؤكّد أن تقبل إيران بحصوله.

لذلك، تبقى المصالحة على أهمّيتها للبلدين، منطلقاً لبعث رسائل باتجاه واشنطن أكثر منها تسوية لصراعات في بلدان منهكة بالكوارث الحربية والاقتصادية والطبيعية! وهذا في ذاته دلالة على آنية الأمور، أو لنقل على إعادة تموضع الطرفين ظرفياً في انتظار تطوّرات حرب روسيا في أوكرانيا وأزمة الطاقة الكونية وتبعات الملف النووي وعلاقة بكين بواشنطن وانتخابات أمريكا الرئاسية المقبلة.

القدس العربي