في غمرة الهرولة إلى الانفتاح على النظام السوري، والأحرى الحديث بالطبع عن إعادة إدخاله إلى حظيرة نظام عربي متوحّد متماثل من حيث الاستبداد والفساد والتبعية والفشل، تُنسى جهة مشاركة في السيرورة، سبّاقة إليها كما يتوجب القول، وصاحبة الكثير من المصالح السياسية والأمنية والعسكرية؛ على خلاف غالبية المهرولين العرب، حيث أهداف الهرولة قصيرة النظر أو محدودة أو آنية أو وصولية تتوسل اتقاء الشرّ وليس حتى دفعه.

تلك الجهة الثالثة هي دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي تُنسى عموماً (عن سابق قصد وتصميم، مضمونه الأوّل هو التجاهل لأغراض التجهيل)؛ رغم أنّ المعطيات الشكلية يمكن أن تفضي إلى عكس هذا الافتراض، لأنّ الطيران الحربي الإسرائيلي لم يتوقف عن قصف الأهداف في عمق الأراضي السورية، وصواريخ الاحتلال تنهمر على الجولان ودمشق كما على مصياف وحلب والبوكمال، جنوب سوريا وغربها وشمالها وشرقها.

ما خلا أنّ هذه المعطيات، ذاتها، تشير إلى أنّ الغالبية الساحقة من «بنك الأهداف» الإسرائيلي تتركز على مواقع إيرانية يديرها «الحرس الثوري» الإيراني، أو ميليشيات تتبع لطهران ابتداء من «حزب الله» وحتى أصغر عصائب عراقية أو آسيوية متشيّعة المذهب؛ ويندر، في المقابل، أن تستهدف الاعتداءات الإسرائيلية ما تبقى من ألوية جيش النظام، أو حتى كتائب الفرقة الرابعة المرتبطة أكثر بالتواجد الإيراني في سوريا.

صحيح أنّ حكومة بنيامين نتنياهو أكثر انشغالاً بالشأن الإسرائيلي الداخلي ومعضلات شروخ المجتمع الإسرائيلي بين مؤيد للائتلاف الحكومي الأكثر يمينية وتطرفاً وفاشية في تاريخ الكيان من جهة، ومناهض لها يتباكى على أطلال «الديمقراطية» الإسرائيلية وأنظمتها القضائية وموقع المحكمة العليا من جهة ثانية. كما أنّ نتنياهو منشغل بآفاق التطبيع مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، واحتمالات المستقبل مع ولي العهد السعودي؛ وبالتالي ليس الانخراط في أي طراز من الانفتاح العلني نحو نظام آل الأسد على جداول أعماله، الحافلة المزدحمة.

ولا يصحّ أن يُغفل، هنا، مغزى التصريحات التي نسبتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية إلى رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة الذي كان حتى عهد قريب صيرفي آل الأسد/ مخلوف، وتمساح الاستثمار والأعمال الأشرس في سوريا؛ بصدد العلاقة الوثيقة بين استقرار النظام السوري، واستقرار دولة الاحتلال، حيث قال بالحرف: إذا لم يتوفّر استقرار هنا، فلا سبيل إلى استقرار هناك. كان ذلك بعد أشهر قليلة أعقبت انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية، ولم يطل الوقت حتى تناغمت مع هذه الأقوال تسريبات على ألسنة جنرالات إسرائيليين في المؤسستين العسكرية والأمنية، تحثّ على الامتناع عن أيّ إسهام في تقويض نظام آل الأسد.

وكان منطق المطالبة الإسرائيلية بالمدّ في عمر النظام يستند على ثلاثة مسوّغات، بين أخرى أقلّ إلحاحاً؛ أوّلها أنّ نظام «الحركة التصحيحية» حافظ على حدود الاحتلال الإسرائيلي للجولان، لا كما فعل أيّ نظام سوري سابق، منذ تأسيس الكيان الصهيوني. الثاني يساجل بأنّ أيّ نظام مقبل في سوريا لن يكون أفضل حالاً لدولة الاحتلال؛ بل الأرجح أنه سوف يكون أسوأ لأمنها القريب والبعيد، بالنظر إلى الروابط العميقة التي شدّت، وستظلّ تشدّ، الشعب السوري إلى القضية الفلسطينية. وأمّا المسوّغ الثالث فإنه انطلق من معادلة ذرائعية لوجستية: ما دام جيش النظام استخدم ضدّ المعارضة صنوف الأسلحة جميعها، من الدبابة والمدفعية الثقيلة إلى السلاح الصاروخي والجوّي، بما في ذلك البراميل المتفجرة، والقنابل العنقودية، والألغام البحرية…؛ وما دامت المعارضة ليست مكتوفة الأيدي، فهي تدمّر الدبابة وتُسقط الطائرة وتقتل، مثلما يُقتل منها…؛ فإنّ دولة الاحتلال رابحة في كلّ الأحوال.

طراز انفتاح آخر، إذن، لم يعكر صفوه أيّ تشدّق أمريكي معترض (علانية فقط) على هرولة بعض الأنظمة العربية إلى أخيهم ساكن الحظيرة السابق، الذي تجري إعادته إلى حيث انتمى وينتمي.

القدس العربي