مثلما أن إسرائيل ردّت على “قمة جدّة” باجتماع حكومتها في “نفق البراق” وتأكيد خططها لـ “تهويد القدس” وتوسيع الاستيطان في الضفة العربية، كذلك ردّت إيران على القمّة بمناورة ميليشيا حزبها اللبناني في الجنوب تأكيداً لـ “الجهوزية” في مواجهة إسرائيل. أرادت الدولتان إظهار أن العرب منفصلون عن الواقع: فما يجري في القدس والضفة يتجاوز “مركزية” القضية الفلسطينية كما أكّدتها القمّة، وما يدور في لبنان وجنوبه كما في سوريا وجنوبها يبقى منفصلاً عما يسمّى “انفراجاً اقليمياً” يتمثّل خصوصاً بالتفاهم بين السعودية وإيران.

حاولت “قمّة جدّة” إشاعة مناخ مسالمة في المنطقة، بقرارات تستند الى القوانين والمبادئ الدولية، غير أن إسرائيل وإيران أعادتا تذكير العرب سريعاً بأن الصراع “المركزي” الذي يتعاملون معه كأنه أقفل لا يزال قائماً وأن صفحة جديدة تُفتح فيه للتوّ. بل تذكّران أيضاً بأنهما غير معنيتين بأي “سلام عربي”، أو حتى بـ “تطبيع علاقات” لا يتمّ بشروطهما. وكما أن إيران استغلّت التفاهم مع السعودية لإشهار استراتيجية “توحيد ساحات المقاومة” كأمر واقع اقليمي، كذلك تستغلّ إسرائيل الإنكفاءَين الأميركي والعربي وتلعب على تلك “الساحات” نفسها لتستكمل احتلال الضفة وضمّها وتتابع بناء أمر واقع إقليمي لمصلحتها. كلتاهما، إسرائيل وإيران، تحتاج الى الأخرى للإبقاء على مناخ المواجهة. وكلتاهما تهمّش أي سلطة قائمة في سوريا ولبنان وفلسطين.

هذه المواجهة، وليست المسالمة العربية، هي الحقيقة الفارضة نفسها حالياً في الشرق الأوسط، ولا بدّ من الاعتراف بها عربياً لتحديد كيفية التعامل معها، أمّا تركها تعمل فيعني تمكينها من تحقيق الأهداف الإسرائيلية والإيرانية على حساب المصالح وطموحات الاستقرار العربية. كما أن هذه المواجهة، وليست المسالمة العربية، هي التي تتحكّم بأي تسويات وحلول. فعلى وقعها وبموجب مؤثّراتها لن يغيّر النظام السوري سلوكه تجاه شعبه، أكان داخل الجامعة العربية أو خارجها، ولن يجنح الى “حل سياسي”. ولن تتخلّى إيران و”حزبها” عن سيطرتهما على لبنان. أما بالنسبة الى فلسطين فلم يعدّ ممكناً تصوّر أي تصويب للوضع في مرحلة تسيّد المتطرفين الإسرائيليين واستمرار الانقسام الفلسطيني.

الحلقة المفقودة هي الدور العربي المؤثّر، على افتراض أن العرب يريدون فعلاً هذا الدور الذي خسروه طوعاً أو قسراً ولم يعودوا يملكون مقوّماته، لكن لا بدّ منه حين يكون هناك بحث جدّي عن “استقرارٍ” ما في المنطقة، فـ “التطبيع” مع إسرائيل فشل في أن يكون خياراً صالحاً لأي “سلام” في فلسطين وغيرها، و”التطبيع” مع إيران لن يكون المدخل الصحيح لأي “عملية سياسية” في سوريا أو لـ “انقاذ” لبنان من أزمته (من دون نسيان العراق واليمن).

مناورة “حزب إيران/ حزب الله” في جنوب لبنان استدعت تحذيراً اسرائيلياً من “خطأ” قد يرتكبه حسن نصرالله ويؤدي الى “حرب كبيرة”. لكنه لن يخطئ إلا بأمر من مرجعيته، فلا إسرائيل ولا إيران و”حزبها” يريدون حرباً، أما “الخطأ” فواقع في جعل لبنان أرض مواجهة “جاهزة” (خلافاً لإرادة دولته) وموصولة بجبهة الجولان السورية (حيث يتماهى النظامان الإيراني والسوري). وإذ رفض رئيس الحكومة نجيب ميقاتي “أي مظهر ينتقص من سلطة الدولة وسيادتها” فقد جاءه الجواب من الرجل الثاني في “حزب إيران” بأن اعتراضه واعتراضات سواه “لا تقدّم ولا تؤخّر”. كانت المناورة ردّاً على اعلان القمّة “الرفض التام لدعم تشكيل جماعات وميليشيات مسلحة خارج مؤسسات الدولة”، لكن الساسة “المؤهلين” للرئاسة اللبنانية سيواصلون الثرثرة حول السيادة والاستراتيجية الدفاعية.

النهار العربي