الراحل الكبير إدوارد سعيد (1935 – 2003) يُفتقد كثيراً، كما يليق بمفكّر وناقد أدبي/ ثقافي رفيع الإسهام وعميق الرؤية؛ في ميادين شتى لا تبدأ من القضايا السياسية والإنسانية الكبرى (التي باتت تُحمّل صفة «الخاسرة»)، ولا تنتهي عند المنحنى الراهن في أحقاب ما بعد الاستعمار القديم/ الجديد وفجر الإمبريالية الأحدث، وتمرّ دائماً بالانشغال الأهمّ والأعمق والأكثر إفصاحاً عن شجاعة الرجل وتَميُّز سجالاته وعمق بصيرته: القضية الفلسطينية.

وبين كتاباته الكثيرة الغزيرة عن فلسطين والفلسطينيين، وبالتالي عن دولة الاحتلال الإسرائيلي وماضي وحاضر ومستقبل الحركة الصهيونية، تجد هذه السطور دلالات عديدة في التوقف عند واحد من أهمّ أعماله في هذا الصدد، ولعله بين الأخطر والأجدى والأبكر استشرافاً لمآلات الصراع العربي – الإسرائيلي، ولاصطفافات الغرب الرسمي والشعبي خلف الكيان الصهيوني؛ وهو من جانب آخر مؤسف عمل غير معروف على نطاق واسع، أو بما يكفي ويستوجب، لدى الشرائح الأوسع من قرّاء سعيد العرب على نحو خاص. وأمّا ثالثاً، وليس أخيراً بالطبع، فهو أنّ محتويات العمل تخاطب الراهن على نحو مذهل؛ سواء لجهة انفلات الهمجية الإسرائيلية من كلّ لجام خلال العدوان على قطاع غزّة وسكانه المدنيين الفلسطينيين، أو لجهة انحطاط الغالبية الساحقة من ديمقراطيات الغرب إلى الدرك الأقصى من السكوت عن جرائم الحرب أو التواطؤ معها أو حتى تشجيعها.

الكتاب هو «لَوْم الضحايا: الأبحاث الزائفة والقضية الفلسطينية»، الذي أشرف سعيد على تحريره بمشاركة الكاتب البريطاني الراحل كريستوفر هتشنز، وصدر بالإنكليزية ضمن منشورات Verso في لندن، سنة 1988؛ وفي حدود ما تعلم هذه السطور، ليست للكتاب سوى ترجمة عربية واحدة أنجزتها «الهيئة العامة للاستعلامات» في القاهرة سنة 1991، وصدرت تحت عنوان «إلقاء اللوم على الضحايا: الدراسات الزائفة والقضية الفلسطينية»، من دون ذكر اسم المترجم. ولائحة المساهمين، إلى جانب المحرّرَين، ضمّت نورمان فنكلستين، بيريتز كيدرون، نوم شومسكي، ج. و. بويرسوك، إبراهيم أبو لغد، رشيد خالدي، جانيت أبو لغد، محمد حلاج، وإيليا زريق. سعيد كتب المقدمة وشارك في مقالة مشتركة حول صورة الشعب الفلسطيني وثلاث مساهمات: «مؤامرة إطراء»، «قراءة كنعانية»، و»الإرهابي الضروري» الجديرة هنا بتفصيل خاصّ.

ذلك لأنّ المقالة كُتبت في أواسط ثمانينيات القرن المنصرم، خلال سياقات أمريكية وأوروبية شهدت شحن مفهوم «الإرهاب» بما هبّ ودبّ من معانٍ وتأويلات مصطنَعة غالباً، أو مصنَّعة وزائفة استهدفت استبدال الشيوعية كـ»عدوّ الشعب الأوّل» بأيّ وكلّ ما يمكن إدراجه من نزاعات وصراعات ومواقف مناوئة للغرب عموماً وللإمبريالية الأمريكية خصوصاً، تحت خانة الإرهاب العامة والمعممة والغائمة. هدف ثانٍ لمقالة سعيد كان مساجلة كتاب صدر خلال الفترة ذاتها، وسرعان ما انقلب إلى «إنجيل» من الأقوال المأثورة، المفخخة والضحلة والمغلوطة، بصدد «قياس» الإرهاب و»تشخيص» الإرهابيين؛ الذين تمّ حصرهم، بأقصى درجات الاستخفاف، في الإسلام أوّلاً، ثمّ في تفريعاته التي يأتي الفلسطينيون على رأسها.

ولم تكن مصادفة، كما أثبتت الوقائع اللاحقة أنّ محرّر الكتاب ذاك الذي صدر بالإنكليزية في نيويورك سنة 1986 بعنوان «الإرهاب: كيف يمكن للغرب أن ينتصر»، لم يكن سوى… بنيامين نتنياهو، وكان آنذاك مندوب دولة الاحتلال لدى الأمم المتحدة. ولا عجب كذلك أن يتصدّر المساهمين «خبراء» من أمثال بنصهيون نتنياهو (والد المحرّر الهمام، وكان يومها أبرز الإسرائيليين الأحياء المناصرين علانية لأفكار زئيف جابوتنسكي، خاصة خلال أطوار هيام الأخير بالفاشية الإيطالية)؛ أو إسحق رابين (بطل حثّ الجيش الإسرائيلي على استخدام الصخور في دقّ عظام الفلسطينيين)؛ صحبة جورج شولتز، برنارد لويس، بول جونسون، جين كيرباترك، وموشيه أرنز. ولا غرابة، ثالثاً، أن تتوزع فصول الكتاب على عناوين مثل «تحدّي الديمقراطيات»، «الإرهاب والتوتاليتارية»، «الإرهاب والعالم الإسلامي» بالطبع، و… «الركائز القانونية للحرب ضدّ الإرهاب».

لافت إلى هذا أنّ تعريف الإرهاب الذي يقترحه نتنياهو يبدو، لسخرية التاريخ، منطبقاً كلّ الانطباق على جرائم الحرب التي واصل الجيش الإسرائيلي ارتكابها في سائر فلسطين، على امتداد 75 سنة من عمر الكيان الصهيوني؛ ويواصلها اليوم أيضاً على النحو الأشدّ وحشية وهمجية وفاشية، ضدّ 2,2 مليون آدمي فلسطيني في قطاع غزّة، من دون استثناء المشافي والمخابز والمساجد والمدارس. الإرهاب، كتب نتنياهو في تقديم الكتاب، هو «الإجرام المتعمد والمنهجي، والتشويه، والتهديد، بحق الأبرياء لزرع الخوف لأسباب سياسية»؛ الأمر الذي يعني أنّ التعريف ليس قاصراً عن توصيف إرهاب الدولة الإسرائيلي القديم والمتجدد فقط، بل يبدو ألطف وأرقّ من أن يُقارَن بأيّ من مذابح الكيان، منذ تأسيسه وحتى الساعة. الأرجح، استطراداً أنّ نتنياهو محرّر الكتاب آنف الذكر سوف يكون أوّل المعترضين على التعريف ذاك، المراجعين له بما يغسل أيدي الاحتلال الإسرائيلي من دماء آلاف الفلسطينيين؛ ومن غير المستبعد أن يكون رجل مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن ثاني المعترضين على ذلك التعريف… الفقير!

يُفتقد سعيد، إذن، في ليالٍ ظلماء مثل هذه التي ترخي سدولها الدامية على أرض فلسطين؛ ومع افتقاده يزدحم المشهد بخطابات الانحياز الأعمى والانحطاط الأخلاقي وتسطيح المفاهيم وتزييف الحقائق والتهليل لإراقة الدماء…

القدس العربي