العنادُ الشيعي الذي جوبِه بعنادٍ مسيحي، هو أبرز ما اسفرت عنه جلسة الانتخاب الرئاسية في مجلس النواب الاربعاء الماضي، التي لن تتكرر إلا بمعجزة.. طالما أن الحوار والتفاهم بين الطائفتين الكبريين زادا صعوبة، وبات صراع الارادات، الذي يحتدم يوماً بعد يوم، يمس جوهر وجودهما معاً.

ليس للعناد الشيعي منطق. وهو لا يمكن أن يقارن، على سبيل المثال، بالموقف العنيد الذي أدى الى انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً في العام 2016 ، بعد فراغ دستوري دام سنتين ونصف السنة، وكان يعبر يومها عن وفاء للجنرال الذي كان الوحيد ربما في الجمهورية اللبنانية، وليس فقط في البيئة المسيحية، الذي كانت تغطيته مطلقة، وغير مشروطة لحزب الله في جميع مواقفه وسلوكياته التالية للخروج السوري من لبنان، بما فيها تورطه في حرب العام 2006 المدمِّرة مع العدو الاسرائيلي.

يضاف الى ذلك أن شعبية الجنرال المسيحية يومها كانت تقارب الثلثين، التي كانت كافية ل”لبننة” الحزب، وحصار السنّة، بحلف وثيق فاضت فيه مزاعم القوة الفائضة عند الطائفتين، قبل ان تصطدم تلك القوة بوقائع سياسية عطّلت استخدامها، وباعدت بينهما الى حد الفراق الحالي الذي لا رجعة فيه، عندما فوجىء العونيون ان حزب الله مصرّ فعلاً على ترشيح سليمان فرنجية، من خارج أي حساب سياسي، محلي أو خارجي، بحيث يبدو كأنه مبني فقط على رغبة في كسرِ إرادة الغالبية المسيحية المعارضة لذاك المرشح.

ولا يظهر أن تلك الغالبية، العابرة لمعظم الطوائف، تفهم معنى الدعوات اليومية التي يطلقها الحزب يومياً للحوار والتفاهم: هل يقصد بها التفاوض على تسوية حول انتخاب فرنجية رئيساً مفروضاً يلتزم مسبقاً بتقاسم بقية مواقع السلطة مع خصومه؟ أم يقصد بها إستعداده للتخلي عن فرنجية تجاوباً مع رغبة الأكثرية النيابية والشعبية، مقابل التخلي عن المرشحين الآخرين المتداولين، وصولا الى مرشح تسوية من خارج السباق السياسي؟ ما زال الحزب في قلب المعركة، وهو يخوضها باعتبارها معركة حياة او موت، مثله مثل الغالبية المسيحية التي تقاوم اليوم محاولة تصفية وجودها في البلد، وليس فقط موقعها على رأس الجمهورية. وهو يستخدم في هذه المعركة سلاح التخوين والتشكيك ببرامج المرشحين المنافسين، وآخرهم المرشح جهاد أزعور الذي كان برنامجه ولا يزال هو الأنسب من أجل إخراج لبنان من أزمته الاقتصادية والمالية الطاحنة.

لن تنعقد بعد اليوم جلسة نيابية يتكرر فيها مشهد الاربعاء الماضي، ولا عدد الاصوات التي توزعت على المرشحيَن الاخيرين. من الآن فصاعداً، لا بد أن يتم حساب الاصوات وفرزها خارج البرلمان، وخارج البلد..لا سيما إذا تمكنت الكتلتان المتناحرتان من إقناع الخارج بالتوسط بينهما، والتوافق، الذي لم يعد له بديل، على تولي قائد الجيش العماد جوزف عون الرئاسة، بوصفه تنازلاً من الحزب عن مرشحه الاوحد، يقابله تراجع خصومه عن مرشحهم الاخير الذي حظي بغالبية الثلثين المسيحية.

ليس من السهل التكهن الآن بقدرة قائد الجيش، اذا شق طريقه الى قصر بعبدا، على تفكيك “العنادين” الشيعي والمسيحي، من دون المخاطرة بالرئاسة، التي تستدعي، حسب موازين القوى الراهنة، تفويضاً مسيحياً صريحاً وواسعاً، وتكليفاً شيعياً واضحاً ومحدداً، ما يكسب اي رئيس مقبل، تغطية دستورية كافية للحكم، لا سيما في ظل غياب الشرعية السنيّة التي كانت في ما مضى تصنع رؤساء الجمهورية وتباركهم وتشاركهم السلطة..وهي اليوم تبحث عما يوفر لها فرصة الالتحاق بأحد المعسكرين الكبيرين، ولو من موقع الشريك المنافس لهما معاً، والطامح فعلا ليوم يستعيد فيه بعضاً من مجد لبنان الذي أُخذ منه عنوة.

موقع المدن