ما حدث في تونس هو أشبه بالتالي:
مباراة في كرة القدم لكنَّ اللعب لم يكن جميلا ولا اللاعبين باللياقة المطلوبة، كما أن أغلبهم استمرأ إضاعة الوقت وتفويت الفرص. ومع أن الجمهور هو الذي اختار هؤلاء اللاعبين إلا أنه بدا متبرما من أدائهم، رغم تفاوته من لاعب إلى آخر.

بدأ الجمهور في التململ ثم شرع في التصفير ثم انتقل الكثير منه إلى الهتاف ضد هذا اللاعب أو ذاك متبرما من المباراة كلها. لم يكن الجمهور في كل ذلك على قلب رجل واحد فمنه من ظل يناصر الفريق رغم كل العلل ومنه من كان يرى أن من حقه أن يتمتع بلعب أرقى ولاعبين أفضل، فيما مضى بعضه للمقارنة بالدوريات الأجنبية فغاظته رداءة دوريه مع أنه كان الأفضل عربيا، ومنه من لم يكن حرصه صادقا من أجل المتعة واللعب الجميل بقدر ما كان يرغب في عودة التشكيلة القديمة للفريق رغم ما لحق بأدائها من شوائب صارخة اضطرت الناس قبل أكثر من عشر سنوات إلى النزول إلى الملعب لإخراجها منه.

وسط هذا الاستياء، قام أحد اللاعبين، رغم أن أداءه هو الآخر لم يكن خارج مربع الرداءة التي صرخ الجمهور ضدها، بافتكاك الكرة وضمها إلى صدره ثم انتزع من الحكم صفارته وأطلق منها تصفيرة مجلجلة معلنا أنه قرر إيقاف هذه المباراة السيئة، حرصا على سمعة كرة القدم ودرءا لأية فوضى قد تودي بالملعب كله. نادى على من كان في الملعب من قوات الشرطة والجيش فأمّنت سلامته وزكّت ما أقدم عليه ثم شرعت في إخراج اللاعبين.

استاء جزء من الجمهور من هذا التصرّف الفردي المفاجئ لكن أغلبه أخذته نشوة الفرح، بعضه لشماتة كان يضمرها منذ البداية تجاه المدرّب الذي لم يضم في تشكيلة الفريق لاعبيه المفضلين، والبعض الآخر توقا للعب أجمل، لا سيما وأن صاحبنا الذي افتك الكرة وقرر منفردا إيقاف المباراة شرع فورا في دغدغة مشاعره واعدا إياه باعتزامه تطهير الساحة الكروية مما علق بها من فساد وسوء تصرف ومحسوبية كانت هي السبب في تراجع مردود الفريق على أرضية الميدان، مستثنيا نفسه بالكامل ومعفيها من كل لوم وكأنه لم يحمل معهم نفس القميص.

اطمأن صاحبنا إلى توسّم الجمهور الخير فيه فاعتبره تفويضا مفتوحا ليفعل ما يشاء. لم يكتف في كل مرة بشتم المدرب السابق وخططه التكتيكية وأداء اللاعبين فقرر منفردا تعليق البطولة الوطنية لكرة القدم مرة واحدة وحل الجامعة ولجنة الحكام ومراقبي الخط وهيئات الأحباء وأغلق كل الملاعب مانعا حتى صيانة عشبها. وكلّما عبرت «الفيفا» عن قلقها من إجراءاته يُستفز ويرد عليها غاضبا بأن كرة القدم في بلاده لعبة وطنية صرفة ولا حق للآخرين في التدخل فيها فطالما أنه هو لا يتدخل في الدوري الإنكليزي أو الإيطالي لا يحق لأحد أن يبدي رأيه في الدوري التونسي المعلّق.

وبعد أن فعل كل ذلك، مستخفا بالجميع حتى بأولئك الذين هلّلوا لقراراته، أعلن صاحبنا أنه سيشرع في سن قواعد لعبة جديدة غير التي كانت سائدة، مع أنه هو نفسه ما كان ليظهر في التشكيلة السابقة لولا التزامه بالقواعد التي اتفق عليها الجميع والتي بناء عليها انطلق الدوري. قال إنه سيغيّر طول الملعب وعرضه وطول المرمى وارتفاعه ونوعية الشباك التي فيه، كما قرر أن المباراة لا تجري بالضرورة على شوطين، وأن لا داعي لأشواط إضافية في صورة التعادل، وضربات الجزاء ليست خمسة في كل الأحوال، وأن الفريق قد لا يتكوّن من 11 لاعبا كما هو معروف، وأنه يعود إليه وحده اختيار مدة كل مباراة والحكم الذي سيديرها ومراقبي الخط وحكام الفيديو المشهور باسم «الفار»، وأن أسعار تذاكر دخول الملاعب هو من يسعّرها واللافتات المرفوعة من روابط النوادي هو من يحدّدها وكذلك أهازيج الأحباء. وحتى لا يتهم صاحبنا، ظلما وافتراء، بالاستبداد قرر مشكورا عرض بعض ملامح هذه القرارات على استفتاء إلكتروني لم يشارك فيه إلا نزر قليل من الجمهور لأن أغلبه كان يظن أن إيقاف البطولة كان لتطوير اللعبة وليس لإلغائها بالكامل. ومع ذلك، قال صاحبنا إن هذه الاستشارة نجاح كبير فواصل دربه لا يعبأ بأحد.

وبعد أن فعل ما فعل ورفض بعناد أي حوار حول مستقبل الدوري، أعلن الرجل عن حواره هو الخاص الذي يريده استشاريا ليس أكثر فلا أحد يلزمه بشيء، وعيّن على رأس هيئة الحوار رجلا لم ينجح قط من قبل لاعبا ولم تتم دعوته يوما للمنتخب الوطني. قرر صاحبنا وحده أيضا من سيشارك في هذا الحوار فاستجاب له البعض ورفض البعض الآخر.

سنرى في النهاية ما إذا كان هذا الحوار سيكتب له الانطلاق أم لا، ولكن ليكن في علم الجميع أن الدعوة كلها لا تتعلق بكرة القدم بل لا علاقة لها بالكرة أصلا..

القدس العربي