الكل في تونس غاضب هذه الأيام..
الرئيس قيس سعيّد، الغاضب دائما، غاضب حاليا من عدة أشياء، من بينها التدفق المكثف للمهاجرين الأفارقة إلى بلاده، دون قدرة له على التشخيص الصائب ولا المعالجة الهادئة والإنسانية، وغاضب من قرارات رياضية دولية منعت رفع العلم التونسي في المحافل الأولمبية بسبب التلكؤ في سن التشريعات المطلوبة دوليا في مجال مكافحة المنشطات، دون أي مراجعة جريئة لمن يتحمّل فعلا مسؤولية ذلك، وهو غاضب كذلك من جرأة محامية ومعلّقة إذاعية عقّبت على كلامه بما لم يرق له.
المحامون غاضبون أيضا، بعد أن استبيح مقر نقابتهم مرتين الأولى بعد أن لجأت إليه هذه المحامية سنية الدهماني التي صدرت في حقها بطاقة جلب فما كان إلا أن داهمته عناصر أمنية ملثمة واعتقلتها في أجواء من الصراخ والفوضى صادف أن نقلها تلفزيون فرنسي كان يبث وقتها على الهواء من هناك، والثانية حين اقتحمه الأمن مجددا معتقلا اثنين من المحامين هما مهدي زقروبة ونضال الصالحي مع عبث بالأثاث والمحتويات كما أظهرت ذلك صور عديدة للمكان.
أما غضب القضاة فهو مكتوم بعد أن نجحت السلطات في ترهيبهم فصارت التعليمات السياسية هي التي تحدد الاعتقالات وحتى الأحكام، دون مراعاة للحد الأدنى من سلامة الإجراءات القانونية، خاصة بعد ما صرّح رئيس الدولة نفسه بأن أي قاض يبرّئ من يراه هو مدانا يعتبر شريكا له، ما أشاع أجواء خوف رهيبة أصابت العدالة في مقتل.
أما الصحافيون فغضبهم يعود إلى التضييق المتصاعد ضد حرية الإعلام ما أعاد أجواء الخوف والرقابة الذاتية بعد أن عاش القطاع لأكثر من عشر سنوات مناخا حرا غير مسبوق. هذا التضييق دفع نقابة الصحافيين إلى إصدار أكثر من بيان يستنكر هذا التوجه الذي بسببه تقهقر تصنيف تونس العالمي في مجال حرية الصحافة، خاصة مع وجود كل من الصحافيين شذى الحاج مبارك في إيقاف ناهز العام دون محاكمة، ومحمد بوغلاب في السجن بحكم لستة أشهر، وكلاهما بسبب عملهما الصحافي ليس أكثر. وزاد من غضب الصحافيين كذلك اعتقال أخير شمل هذه المرة كلا من برهان بسيّس المقدم التلفزيوني ومراد الزغيدي المعلق الإذاعي والتلفزيوني.
والحقيقة أن البلاد ما كان لها أن تصل إلى كل ما وصلته إليه الآن من اختناق وسمعة دولية سيئة لولا الخطيئة الكبرى الفادحة التي وقعت فيها معظم النخبة السياسية من أحزاب وجمعيات وشخصيات واتحاد العمال بدرجة أساسية حين رحّب كثير منها بما قام به قيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز 2021 حين تعسّف في قراءة الفصل 80 من الدستور وقام بحل الحكومة ووضع دبّابة أغلقت مقر البرلمان. رحّب هؤلاء ظنا منهم أن هذا الإجراء سيضع حدا لكثير مما كانت تعانيه البلاد من مشاكل وستريحها من وجود الإسلاميين في دائرة الحكم. غلبتهم النكاية وضيق الأفق فانقلبت الطاولة على الجميع فسجن رئيس البرلمان راشد الغنوشي واعتقل عديد الشخصيات السياسية المرموقة في قضية «تآمر على أمن الدولة» لم تقنع أحدا. هذه الخطيئة الكبرى اعترف بها نبيل حجي زعيم حزب «التيار الديمقراطي» حين كتب مؤخرا أن «المأساة بدأت حين هلّلت النخب بغلق مجلس النواب المنتخب بدبّابة» في نقد ذاتي شجاع يشمل الجميع ومنهم حزبه نفسه.
وقس على ذلك، ما كان للمحامين أن يصلوا إلى هذا الوضع الذي تنتهك فيه حرمة مقرهم، وهو ما لم يحدث في أحلك فترات الاستبداد في تونس، سواء في عهد بورقيبة أو بن علي، لولا أنهم رضوا بأن يكون عميدهم السابق إبراهيم بودربالة أحد أدوات الرئيس في تدجينهم لحسابات شخصية أنانية أوصلته إلى «جائزة» رئاسة مجلس الشعب الجديد الذي لا حول له ولا قوة بشرعية مهزوزة وانتخابات بإقبال هزيل للغاية.
وقس على ذلك، فما كان للقضاة أن يصلوا إلى وضع الخنوع الحالي لو أنهم استمرّوا في هبّتهم الأولى ضد قرار عزل الرئيس لخمسين منهم ورفض إنصافهم لاحقا حين قررت المحكمة الإدارية تعليق عزلهم، ولولا قبول بعضهم عضوية «المجلس الأعلى للقضاء» الذي نصّبه الرئيس بعد أن حلّ المجلس المنتخب ديمقراطيا من قبل القضاة.
وقس على ذلك، فما كان للصحافيين أن يصلوا إلى هذا الوضع المخنق لو أنهم وقفوا ونقابتهم منذ البداية بقوة ضد اعتقال وسجن زملاء لهم وأساسا عامر عياد بسبب قصيدة ألقاها في بداية برنامجه التلفزيوني، وصالح عطية بسبب مقابلة له ضيفا على قناة تلفزيونية، لكن غلبتهم للأسف الحسابات السياسية والتصنيف الأيديولوجي فكان أن وصل المد الجارف إلى الجميع.
ومع ذلك، فتونس لم تعد تحتمل أن تنغمس في الندم أو في لوم أبنائها بعضهم لبعض، أو الشماتة وإشاعة أجواء الكراهية، إذ المطلوب الآن وبسرعة الاستفادة من هذا الدرس القاسي والشجاعة في تقييم الجميع للتجربة الماضية التي أدّت إلى سقوط التجربة الديمقراطية الوليدة، رغم عثراتها، في براثن الشعبوية والعبث وانعدام الكفاءة. لا بد من بحث جماعي عن أفق للتجاوز يخرج البلاد من هذا الكرب الذي تعانيه أما المكابرة واستمرار الانقسام فستؤدي بالجميع إلى أسوأ مما تعانيه اليوم من غضب قد ينفجر في وجه الجميع.. لا سمح الله.
القدس العربي
Be the first to write a comment.