مثل طعنة في الصدر، لا تكتفي بالإيلام، بل تصر على إثارة الأسى، المصحوب بغصة، ودمعة: “فلسطينية الكلمات والصوت”، تسقط على وجهها، مضرجة بالدماء، تتكثف في صورتها، رواية شعب كامل وحكاية أرض لا تمحى. الخبر يهز عصب العرب، ويجوب آفاق العالم، ويعيد الجميع الى الأصل الذي صار فرعاً، هامشاً، وعبئاً أخلاقياً وإنسانياً كاد يسقط بالتقادم.
الصدى مفاجئ. كان يعتقد ان إستشهاد “فلسطينية العينين والوشم” لن يحفر إلا في مكانه، في جنين ومخيمها، في الضفة وغزة وفي اراضي ال48، لكنه لن يتردد خارج تلك الارض المعذبة. كان يخشى ان يظل خبراً محلياً، عائلياً، إعلامياً..وأن يبقى خبراً فلسطينياً من يوميات الداخل الحافلة بالاعدامات الميدانية التي لا تنتهي ولا تحرك ساكناً خارجه.
لكن “فلسطينية الميلاد والموت”، خرقت جدران الصمت وحطمتها. تحولت بسرعة الى إسم علم ، راية، هوية، ومكانة مستعادة على رأس أولويات الهموم الفلسطينية والعربية والدولية، ولو لفترة وجيزة، عابرة. فهذه هي مهمة كل شهيد او شهيدة فلسطينية، أن تخوض المنافسة الحامية على رفع إسم فلسطين، وعلى ضمان عدم موته أو نسيانه، أو صرفه عن الانتباه.
أدت شيرين أبو عاقلة دورها بنجاح، نفذت على طريقتها، العملية الفدائية المطلوبة منها، والتي كرست نفسها لها، منذ أن ولدت قبل 51 عاماً ، ومنذ أن عملت في الاعلام قبل 25 عاماً..تاركة خلفها جيلاً كاملاً من الاعلاميين والاعلاميات الذين يمشون اليوم في جنازتها، أو يتبادلون التعازي باستشهادها، وهم يتطلعون، بأمل، الى حلول موعد تنفيذ عمليتهم الفدائية الخاصة..المحدد في كتب القدر الفلسطيني.
لكن شيرين قد تبقى بلا منافسة حقيقية، حالة قد لا تتكرر: هي امرأة، في مقتبل العمر، مسيحية، مقدسية، اعلامية، مستقلة، مكافِحة، رقيقة، صريحة، جريئة. إجتمعت فيها معظم الصفات التي كان يتوقع أنها حُجبت، أو ربما شُوهت. لكنها ظلت في العمق الفلسطيني، تتنقل على خطوط التماس، مثلما بقيت على شاشة الجزيرة، تنقل الصورة التي اصرت القناة القطرية، ومعها الاعلام القطري كله، على ريادتها وأولويتها ومركزيتها، مهما جارت الايام والاحداث العربية والعالمية، على فلسطين وقضيتها.
وكأن شيرين شاءت أيضا ان يكون استشهادها سبباً لكي يلحق الاعلام العربي باسره، برغم بعض الاستثناءات العربية الدنيئة، ب”الجزيرة”، متابعاً ومعزياً، ومطالباً بالعدالة، على غرار ما فعل أغلب الاعلام العالمي، قبل ان تمتد لبعض مراكزه الكبرى، الاميركية خاصة يد الغدر الاسرائيلية، التي لم تتحرك إلا لأنها شعرت ان جريمتها، ضد الانسانية، وضد المرأة الفلسطينية، وضد الحرية، لا تغتفر.. بسهولة.
وهكذا، حققت “فلسطينية الاحلام والهمّ”مرادها. حفرت لنفسها مكانا مرموقاً في الذاكرة الفلسطينية والعربية، عندما أيقظت مشاعر راج أنها تبلدت، أو أزيحت عن رأس لائحة الهموم والاحلام. لكن شيرين تركت وصية بسيطة جداً، موجهة لغير الشهداء والشهيدات الفلسطينيين والفلسطينيات، الذين يكملون مسيرة الشهادة بلا إنقطاع: المشروع الصهيوني يبدو اليوم وكأنه يدخل في طور جديد، ما زال يطلق النار بكثافة على كل ما يتحرك على أرض فلسطين، مثلما دأب المهاجرون اليهود الاوائل منذ أن نزلوا أول مرة على الساحل الفلسطيني. الحملة العسكرية الاسرائيلية الضارية على المقدسات والحرمات لا ترحم ولا تستثني إمرأة أو طفلاً حتى، بغض النظر عما اذا كانت عرض قوة او دليل ضعف. المهم الآن ان يتم التدخل بسرعة لوقف النكبة الثانية، التي لن تستبعد أحداً ولن تسامح أحداً.
في وداع شيرين، وغيرها من الفلسطينيات اللواتي يخلّدن إسم محمود درويش وشعره، تنتظم كلماته : فلسطينية العينين والوشم/ فلسطينية الاسم/ فلسطينية الاحلام والهم/ فلسطينية المنديل والقدمين والجسم/ فلسطينية الكلمات والصمت/فلسطينية الصوت/فلسطينية الميلاد والموت…
Be the first to write a comment.