لم تنشغل فئة على الأراضي اللبنانية بالمدينة الصاروخية “منشأة عماد-4″، التي كشف عنها “حزب الله” يوم الجمعة الماضي، مثلما انشغلت بيئته الحاضنة.

“الإعلام الحربي” الذي أطلق الفيديو، قال إن الهدف المعلن لهذه الخطوة هو شن حرب نفسية ضد العدو. لكن مع الحفاوة التي استقبلته بها البيئة الحاضنة، تبين أن هدفه المستتر هو رفع معنوياتها.

ذلك أن البيئة الحاضنة تعيش منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول تحديات وضغوطا نفسية قاسية، وتتكسر على أكتافها نصال الانتقادات اللاذعة والتعليقات الساخرة، من قبل البيئة المناوئة لـ”الحزب” والمعترضة على الحرب.

وقد أسقطت حرب إسناد غزة هالة القوة التي نسجها “الحزب” حول نفسه خاصة في العقدين الأخيرين، بالضربة القاضية. وكشفت هشاشة أجهزته الأمنية، وتواضع قدراته العسكرية وقوته الصاروخية، وجهله بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وعدم امتلاكه حرية اتخاذ القرار ميدانيا وسياسيا.

وأصابت هذه السقطات بيئته في مقتل، وجعلت البيئة المضادة تشمت وتجاهر بأن سلاحه وشبكة اتصالاته السرية وجهازه الأمني الحديدي، كانت صرحا من خيال، ولم يكن لها سوى وظيفة واحدة فقط، هي ترويع خصومه في الداخل والاستقواء عليهم، وهو الآن يدفع فاتورة “الاغتيالات” التي ارتكبها، كذلك ثمن اعتدائه على الشعب السوري، إنها “كارما” الشعوب والجماعات، التي لن تكون إسرائيل بمأمن منها هي الأخرى.

وليس سرا القول إن كل التحصينات والحصانات التي أتقن “الحزب” بناءها طوال العقود الماضية سقطت في سوريا، التي يدعي أنه ذهب إليها ليحمي ظهر “المقاومة”، فكانت السبب في انكشافه.

والبيئة إزاء كل هذا صابرة صامتة، تارة تنظر إلى حزبها بعين راضية “عن كل عيب كليلة”، وتارة تتقمص شخصية العاشقة التي يزداد تمسكها بحبها في لحظات ضعفه، في حين يبالغ هو في لعب دور البطل الذي يصارع التنين، ليقول لها “لأجلك فعلت هذا”. فبين “الحزب” وبيئته علاقة قائمة على تغذية مشاعر الحاجة لدى كل منهما، حاجة البيئة إلى وجود الرمز وحاجة “الحزب” إلى من يصدقه، لذلك ابتدع علاقة حب يكون فيها محبوبا لأنه في خطر، فلا يعود العاشق يشعر بأهمية نجاته الشخصية أو بقيمة حياته.

كل التحصينات والحصانات التي أتقن “الحزب” بناءها طوال العقود الماضية سقطت في سوريا، التي يدعي أنه ذهب إليها ليحمي ظهر “المقاومة”، فكانت السبب في انكشافه

وفجأة ظهر فيديو المنشأة، فالتقطت البيئة أنفاسها، واستعادت ثقتها بنفسها، وبدأت بالاحتفال…

كيف تصف البيئة المنشأة؟ إنها مدينة عسكرية محفورة في قلب الجبال، كما توحي عبارة “جبالنا خزائننا”، فيها أنفاق واسعة بما يكفي لمرور شاحنات تحمل الصواريخ، ومنصات مجهزة لإطلاق الصواريخ الثقيلة، وتحوي شبكة اتصالات “آمنة” متصلة بالعالم الخارجي، يمكنها نقل الأوامر في دقائق معدودة، وتتمتع بنظام أمان مرتفع للغاية، فيها مستشفى ميداني ومختلف الاحتياجات الحياتية، التي تمكّن الطاقم الذي يشغلها أن يعيش لمدة قد تصل إلى سنة كاملة، من دون حاجة إلى العالم الخارجي.

إنها منشأة بناها “القائد الجهادي” عماد مغنية الذي اغتيل في دمشق وكانت مركزا له، وليس مستبعدا أن يكون قائد “فيلق القدس” الذي اغتيل في بغداد قاسم سليماني قد زارها، وتقع تحت إشراف الأمين العام، كما أن اسمها “عماد-4” يدل على وجود ثلاثة قبلها، وربما عدد لا يحصى بعدها، ويوجد في إيران العديد منها ويسمونها “مدن الصواريخ”.

في الفيديو، العدة العاطفية كلها موجودة، ومرتبة بعناية الواحدة تلو الأخرى، وهذا ليس موجها لإسرائيل، فإسرائيل لن تدرك حساسية الآية القرآنية في البداية “إنا فتحنا لك فتحا مبينا”، المشابهة لآية “نصر من الله وفتح قريب”، التي تتداولها البيئة كإشارة على نبوءة ما، والآية الأخرى في النهاية “فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين”، التي تشي بوجود مفاجأة، فالأمين العام يحب المفاجآت ويعد بيئته بها دائما.

في حين أتت عبارة “جبالنا خزائننا” بصيغة الجمع، للدلالة على وحدة الحال بين المقاومة وبيئتها.

الفيديو مجبول بنوستالجيا “المقاومة” صوت الأمين العام الذي يظهر ويغيب بحسب ما تحتاجه اللقطة المعروضة من تعليق، ثم الموسيقى الخافتة في الخلفية، التي لا تلفت انتباه إلا من يعرفها. فالموسيقى هي للنشيد الثوري الإيراني “إلى الأمام” الذي ظهر سنة انتصار الثورة الإسلامية، ويقول مطلعه “به لاله در خون خفته” أي “إلى الزنبقة الغارقة بالدم”، وزهرة الزنبق في أدبيات الثورة الإسلامية ترمز إلى “الشهيد”، لذلك نراها على شعار “مؤسسة الشهيد” التي تعنى بعوائل “شهداء المقاومة” في لبنان وإيران.

اختيار هذا النشيد بالذات، هو لإيصال رسالة أن محور المقاومة ككل، سائر على درب الشهداء الذين سقطوا في الحرب ضد الظالمين، ويقسم بدمائهم وباسم الحرية أنه سيظل يقاتل حتى آخر نفس، بمعنى آخر يستبطن النشيد دعوة إلى توحيد الجبهات وساحات المقاومة، علما أن عبارة “الخلود لإيران العزيزة” تتكرر فيه ثلاث مرات.

ويأتي مطابقا لمعاني النشيد، ظهور صور ثلاث فقط من “القادة”: سليماني الذي يمثل إيران، والأمين العام الذي يمثل المقاومة الإسلامية في لبنان، ومغنية الذي يمثل صلة الوصل بينهما.
رغم مرور أيام على عرضه، ما زالت البيئة تحتفل بالفيديو وكأنه ظهر للتو، والحق أن العرض ومشاهديه وثيقة تختزل كل ما يضخه “الحزب” من أيديولوجيا وبروباغندا داخل بيئته وخارجها

مجلة المجلة