غالباً ما يُعدّ دونالد ترامب أوّل رئيس شعبويّ مُنتخبٍ في دولة غربية بعد الحرب العالمية الثانية، وصل الى الحُكم العام 2017 من دون خبرة سياسية أو تدرُّجٍ في أروقة السلطة، ومن دون ثقافة ديبلوماسية، واعتمد مسلكاً في ممارسة مسؤوليّاته لا خشية فيه من قول كلام سوقيّ وعنصريّ ولا من إيراد معلوماتٍ مغلوطةٍ وإطلاق وعودٍ لا إمكانية لتحقيقها.

وغالباً ما يُشار أيضاً الى كونه جسّد في مسيرته غير التقليدية التقاطع المثير بين النجاح في الأعمال والفساد والتهرّب الضريبي وكراهية الدولة المركزية والنخب والمؤسسات الوطنية والدولية وحُسن التعامل مع الكاميرا ثم مع وسائل التواصل الاجتماعي لمخاطبة قواعد اجتماعية تُماثله في كراهيته وتنبهِر بجمعه الثروات وتحويلها الى سطوة وسلطة توازي سلطته الرئاسية الطارئة.

ودونالد ترامب نجح فوق ذلك، رغم فشله في الفوز ثانيةً بالانتخابات الرئاسية الأميركية العام 2021، في تكريس الترامبية في المشهد السياسي الأميركي وإبقائها عنصراً مؤثّراً في اختيار الحزب الجمهوري لممثّليه، وفي تشكيل الأكثريات والأقليّات في السلطة التشريعية بشقّيها (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) كما في المجالس المحلية والجهوية. الأخطر ربّما أنه نجح في وضع “قِيَمه” (التي تعكُس “ُقيَم” قسمٍ كبير من الأميركيين اليمينيين والمحافظين وغير المنتمين لحزبٍ، المعتنقين على الدوام نظريات مؤامرة أو المتمسّكين بـ”حرّيات” فردية تناقض أحياناً مبادئ التعاقد بين المجتمع والدولة أو تنفرُ من التعدّد والتنوّع والتسامح وترى فيها “قيَماً شيوعية”) في قلب السجالات والنقاشات العامة، بما حرّر غرائز أو مقولات كان يحولُ “الصواب السياسي” دون التعبير العلني أو السافر عنها سابقاً.

ورغم أن للشعبوية حضوراً في السياسة في أمريكا الجنوبية سابقاً على الترامبية في الشمال، ورغم كونها لا تقتصر على شخصيات اليمين أو العسكر الذين حكموا طويلاً في أكثر من بلد، إلا أن النموذج الأكثر فظاظةً لما يُمكن أن تعنيه الكلمة وأن يعنيه مضمونها الذي جعله ترامب مرادفاً لمواقف تتخطّى الحقل السياسي المباشر نحو حقول علمية ومجتمعية، جاء من البرازيل العام 2019 مع انتخاب جايير بولسونارو رئيساً. فالمذكور، مثّل ويمثّل مركّب كراهيات سياسية واجتماعية وعنصرية معطوفة على مصالح اقتصادية وعلى احتقار النخب الثقافية، بخطاب تبسيطي وبمفردات استفزازية وبتعامل مع الصورة والإعلام يبحث عن إظهار “القوة” وادّعاء النجاح الخاص والعام غير المكترث بنقد أو تشكيك أو اعتراض.

وليست صدفة أن بولسونارو (كما ترامب) يكذّب العلماء حول التغيّر المناخي (وحول كون غابات الأمازون رئة الكرة الأرضية الواجب المحافظة عليها) وحول فيروس كورونا ولقاحاته، وأنه يهجو الصحافة إن لم تمدحه ويشتم خصومه وقواعدهم ببذاءة، ويتباهى بمفاهيم “ذكورية” ويحتقر ما يعتبره مبادئ مفروضة من “اليسار” ومن بعض المؤسسات الدولية لجهة “حقوق الإنسان” وقضايا البيئة ومسائل العدالة بمستوياتها المختلفة.

والتشابه بين ترامب وبولسونارو يتخطّى سيرتهما ليلامس ردود أفعال بعض مريديهما بعد خسارة كلّ منهما الانتخابات الرئاسية لتجديد ولايتيهما. فاقتحام المؤسسات التشريعية والقضائية وتخريبها وتعمّد تشويه بعض معالمها، كما حصل في يناير 2021 في واشنطن ويناير 2023 في برازيليا، ليس بالشأن الهامشي أو المعزول عن مناخ تشكيك بالديمقراطية التمثيلية إن لم توفّر النجاح في الحالتين، وعن جو حقد على كلّ ما يمثّل (ولو رمزياً) تداول السلطة وفلسفة الحق والقانون (كونغرس ومحكمة دستورية)، إضافة الى اعتبار تشويه الفنون “النخبوية” وتحطيم المكاتب عودةً الى “الذائقة” الشعبية الصافية التي يُفسدها غرور “الاستبليشمنت”.

قبل ترامب وبولسونارو: إيطاليا برلسكوني

أدّى مسارا الترامبية ثم البولسونارية بعد الفشل الانتخابي الشخصي (والنجاح في تكريس شرخ رهيب في المجتمعين الأمريكي والبرازيلي لن يخرجا منه بيُسر في السنوات المقبلة) الى تساؤل علماء سياسة كثيرين عمّا إذا كانت الديمقراطية كنظام حُكم وتمثيل هي نفسها المأزومة اليوم، خاصةً وأن قوى اليمين المتطرّف في معظم الدول الغربية – ولَو وِفق معطيات وخصائص مختلفة – تقدّمت في العقدين الماضيين ولم يعُد ناخبوها يحاذرون التصريح بما لديهم من غضب ومن أحقاد على الأحزاب “التقليدية” (يميناً ويساراً) وعلى المنظومات الإقليمية والدولية وعلى العولمة وآثارها وعلى فلسفة التنوّع والاختلاف و”القبول بالآخر” وغير ذلك من ميراث البشرية في سياق تطوّرها في القرن الأخير. واعتُبر الأمر مُستجِداً نوعاً ما ومُتركّزاً في بلاد هجرة تاريخية وعبودية واختلاط وهويّة مركّبة (كما أمريكا والبرازيل) مع ما يعنيه الأمر من صعوبة نظر أهل هذه البلاد في المرآة وقبولهم بالمساواة الفعلية في ما بينهم.

على أن بعض التذكّر لما جرى في إيطاليا في منتصف تسعينات القرن الماضي يُعدّل من الكرونولوجيا المقتصرة على ترامب وبولسونارو ومن جغرافية الظاهرة الأمريكية (شمالاً وجنوباً) وخصائصها، ويُعيدنا الى العام 1994 ناقلاً إيانا الى أوروبا الغربية. ففي ذلك العام، انتخب الإيطاليون حزب “إيطاليا القوية” بزعامة سيلفيو برلسكوني، رجل الأعمال والمال والإعلام ومالك النادي الأكثر شعبية في كرة القدم (ميلان). وبرلسكوني هذا، الطارئ يومها على السياسة في بلد العراقة الحزبية (الديمقراطية المسيحية كما الاشتراكية والشيوعية) والنزعات المناطقية (خاصة في الشمال) سيطر على الحياة العامة لعامين أوّلاً، ليخفت نجمه قليلاً قبل أن يعود بقوة أكبر العام 2001 فيحكم إيطاليا حتى العام 2011 (مع انقطاع لسنتين فقط إثر خسارته الانتخابات العام 2006). وهو مثّل تزاوج الثروة واستعراضها والسياسة وعروض التلفزة والتفاخر بالفضائح والبذخ والذكورية والنجاح في الرياضة، مفتتحاً مساراً شعبوياً سيُحوّل ما بدا مفاجأة مُثيرة للسخرية في الأوساط السياسية الأوروبية الى جانب من مشهد سياسي مقبول بوصفه ترجمة لإرادة ناخبين، لم تعد خياراتهم قائمة على احترام معايير “النخب” القديمة ومشروطية التمرّس في السياسة وتحمّل المسؤولية والانشغال بإظهار الفصل بين الخاص والعام. أكثر من ذلك، أدخل برلسكوني الى مخيّلة قسمٍ من الإيطاليين كوكتيلاً من الاعتبارات المتناقضة المُستمَدّة من انتماء أوروبي أبيض ومتعجرف (حتى تجاه الجنوب الإيطالي) ومن هوية إيطالية أنتي-أوروبية (تستطيع استدعاء ما يُؤخذ على جنوب البلاد نفسه) قوامها الاستثناء المتوسّطي العاطفي غير المبالي بالتعقيم الأخلاقي البارد أوروبياً. كل هذا في إطار سيرته الشخصية التي اعتبرها تظهيراً للنجاح ولما ينبغي أن تكون عليه إيطاليا القوية المُبتغاة، الأوروبية تارةً، المتمرّدة على الصرامة الأوروبية تارة أخرى.

.

وكما في حالتَي ترامب وبولسونارو وقبلهما بعقدين، جعلت البرلسكونية الحقائق الاقتصادية وجهة نظر ورفض “الاستبلشمنت” والعودة الى “الشعب وعظمته” مسوّغاً لمسلكيات بذيئة واستعراضية، والفساد وتملّك الإعلام والتهرّب من الضرائب شطارةً مبرّرة. وهي إذ خسرت الانتخابات تكراراً بعد سيطرتها على إيطاليا سلطةً ومعارضة لأكثر من خمسة عشر عاماً، خلّفت آثاراً ليس ما يجري اليوم بعد فوز تحالف فاشي-يميني بمشاركة برلسكوني إياه بالانتخابات معزولاً عنها
يمكن القول إذاً إن ما تُشير إليه حالات برلسكوني وترامب وبولسونارو، في ما هو أبعد من حدود إيطاليا وأمريكا والبرازيل على اختلاف خصائص السياسة والاقتصاد والاجتماع (والتاريخ، لا سيّما تاريخ العبودية أو القومية فيها)، هو استمرار التأزّم في الأنظمة الديمقراطية التمثيلية وتصاعده اضطراداً بالتزامن مع تراجع المعايير “الأخلاقية” المرتبطة بمسالك الأفراد وسيرهم طالما أنهم يأتون من خارج أطر تقليدية باتت متّهمة من قبل قطاعات شعبية واسعة في أنها تمنح العولمة التي تستفيد منها الأولوية على المصالح القومية، أو أنها تنحني لإملاءات قانونية وقيمية وحقوقية وبيئية على حساب شرائح اجتماعية “وطنية”. وتلعب وسائل الإعلام الجديدة ووسائل التواصل الاجتماعي وقدرة نظريات التآمر على الإغواء دوراً مهماً في الترويج لهذه الحالات. كما تلعب الغرائز العنصرية ومصالح بعض مراكز النفوذ (المالي والعقاري أو الديني أو العسكري) أدواراً مختلفة في دعمها في البلاد المعنية.

وكلّ هذا يؤكّد أن العالم اليوم سيواجه تحدّيات سياسية جدّية ومتصاعدة في معظم انحائه تُضاف الى صراعات النفوذ والتوسّع المعهودة والمستمرّة فيه.

صحيفة القدس العربي