(تُلِيت هذه الورقة في مؤتمر «عن الأدب والسياسة: الياس خوري روائياً ومثقّفاً وصحافياً»، الذي انعقد بدعوة من دائرة اللغة العربية ولغات الشرق الأدنى في الجامعة الأمريكية في بيروت، في 23 نيسان/ أبريل 2018، ونُشرت في الملحق الثقافي لصحيفة “القدس العربي”).
ماذا تعني الكتابة الثقافية السياسية في مرحلة تشهد فيها المنطقة العربية تحوّلات وتصدّعات وثورات وثورات مضادة وانقلابات واجتياحات وتشظّي مجتمعات وتهجير وحروبَ أبادةٍ تتشارك في صناعتها أنظمةٌ وميليشيات أهلية ودول إقليمية وقوى عالمية؟ وماذا تعني الكتابة هذه في بيروت بالذات، على مقربةٍ من المذبحة السورية المتواصلة من جهة، ومن تصاعد العدوانية الإسرائيلية ومشاريع الاستيطان في فلسطين المحتلة من جهة ثانية؟ وماذا تعني في لحظة تراجع مساحات التعبير الحرّ وانتشار إعلام الشائعات والصراخ والعنصرية ضد اللاجئين؟
قد تبدو الإجابة بديهيّةً، إذ تُحيلنا إلى مهام المثقف المدافع عن قضايا وقيم، المستقلّ عن السلطات والمحصَّن تجاه غواياتها، المتحوّل أحياناً بفعل الأحداث فاعلاً سياسياً، أو صانع رأي عامٍ، أو شاهداً على حقبة يكتب تاريخها الفوري ويعيشه مع من يكتب لهم، أو يكتب تاريخها الموازي، ذاك الذي تهمّشه السرديّات الرسمية المنتصرةُ وتنسى ناسه.
والياس خوري بهذا المعنى، هو من المثقفين اللبنانيّين والعرب الأكثر تأدية لهذه المهام، في كتاباته كما في علاقته بالشأن السياسي، عبر تجارب «مسرح بيروت» وملحق «النهار» ثم مجلة «الدراسات الفلسطينية»، أو عبر تجارب عدّة سبقتها ورافقتها في بيروت الحرب الأهلية طيلة سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، ثم غداة حقبة الاغتيالات والانتفاضة الاستقلالية الناقصة والمغدورة في العام 2005.
وهو فوق ذلك، يملك ميزة تفاضلية يوفّرها الأدب، فيمنح كتاباته ما يتخطّى الآني أو الحدثي، وينسّبها من خلال رواياته ثم ترجماتها إلى الحالة الإنسانية (الكونية) الأعمّ، وإلى الزمن المفتوح دائماً على الذاكرة.
على أن هذه السطور ليست للتركيز على هذه المسائل، على أهمّيتها في ذاتها وفي كتابات خوري ونشاطه الثقافي السياسي ربطاً بها، ولا هي للحديث عن قدرته على الإمساك بالخيط الأخلاقي الرفيع الرابط، البارحة كما اليوم، الكفاح الفلسطيني التحرّري بالكفاح السوري ضد الاستبداد المتوحّش، والموقف من الاحتلالات الخارجية بالموقف من أنظمة الانقلابات والتعذيب والظلامية الداخلية.
هذه السطور محاولة سريعة لتعقّب فكرة واحدة، فكرة المجاز والاستعارة الأدبية إذ تتجسّد واقعاً ومكاناً للعيش والمقاومة ومقارعة المستحيل. إنها عن “باب الشمس” و”بابا عمرو” كمجازَين، أوّلهما هو عنوان واحدةٍ من أبرز روايات الياس، وثانيهما استعارةٌ ماركسية اعتمدها في واحدٍ من نصوصه السياسية التي تلاها في مناسبة عامة.
“باب الشمس” روايةً ومخيّماً
بعد عقد ونصف من الزمن على صدور الرواية، أقام شبّان وشابات فلسطينيّون مخيّماً فوق أرض حرّروها بين القدس والضفة الغربية، واتّخذوا من عنوان الرواية اسماً له: باب الشمس. لم يعمّر مخيّمهم طويلاً، إذ افترسته سلطات الاحتلال الساعية أصلاً إلى إقامة مستوطنة في الأرض ذاتها.
لكنّ القصة لم تنته هنا. بل هي على الأرجح بدأت. فأن يتّخذ كفاحٌ شعبيّ من عنوان روايةٍ، عن اللجوء والمقاومة والحبّ والحدود والزيتون والذاكرة، اسم مخيّم يقيمه على أرضٍ فلسطينية استباقاً لمشروع استيطاني جديد يريد ابتلاعها، ففي الأمر مجازٌ وحياة تستوحي من الأدب مخيّلتها أو تردّ له ما سبق أن استوحاه منها، متيحةً لنا أن نتخيّل أشكال تجدّدها ومواقع مخيّماتها وبلداتها المقبلة وسيَر أبطالها. وقد نبحث بينهم عن يونس ونهيلة وشمس، ونتخيّل راوياً منهم يُشبه خليل، ويحرس ذاكرة قصصهم المتناثرة.
بهذا، قد تتناسل الروايات من الرواية وتتناسل المخيّمات من المخيّم، ويُقفَل بابُ شمسٍ ليُفتحَ آخر بمعزل عن ثنائية الانتصار والهزيمة الميدانية المبنيّة على موازين القوى السافرة، التي لا يقيم لها الأدب وأشكال استيحائه في الكفاح اليومي الكثيرَ من الاعتبار.
بابا عمرو أو اقتحام السماء
“يصعدون لاقتحام السماء”، هكذا وصف كارل ماركس في رسالته الأثيرة إلى كوغلمان مقاتلي الكومونة الباريسية العام 1871 حين واجهوا المستحيل وكافحوا كفاحهم المرير، فبدَوا وكأنهم يقتحمون السماء. تضامن ماركس معهم يومها وأيّدهم، رغم الكثير من الانتقادات السياسية التي وجّهها لهم قُبيل نشوب معركتهم الأخيرة. وهكذا استعار خوري مجاز ماركس واعتمده في كلمته عند تسلّمه جائزة الثقافة العربية من الأونيسكو العام 2012، ليحيّي من باريس ناس حمص، حين كان أبناؤهم في بابا عمرو، الحيّ المهمّش الثائر والمحاصر، يقتحمون بالفعل السماء. يجسّدون في موقعتهم تلك مجازاً أو صورة هي مزيج من بهاء الشعر ومأساوية الواقع. يقتحمون السماء إذ يواجهون المستحيل المدجّج بمدرّعاته وآلة حربه، ويقتحمونها إذ فيها مآل شهادتهم وبديل ذلّهم الأرضي، على ما كانوا يردّدون.
وكما كان معظم المثقفين الفرنسيين صامتين أو خائفين أو متواطئين ضد الكومونة الباريسية، نحا أكثر المثقفين العرب إلى الصمت أو التشكيك أو الاصطفاف مع القاتل خلال الملحمة الحمصية الأولى، حيث انتهى الأمر بمئات المقاتلين والصحافيين والأطبّاء والناشطين السلميّين الذين صنعوا التجربة هناك إلى الموت أو الاعتقال.
خوري عبّر في تلك اللحظة عن صوت قلّة لم يُثنها توازن القوى العسكري والترهيب السياسي عن الانحياز إلى كمّونة الناس العاديّين في حمص، حيث المجاز تعمّد بدماء المقاتلين الصاعدين كلٌّ إلى سمائه.
ماذا يمكن أن نستخلص ممّا ذُكِر؟
في «باب الشمس» كما في «بابا عمرو» تجسّد المجاز في أرض الواقع أو في اقتحام السماء لبرهة، فتلاشت الحدود بين الأدب والحياة، بين المجاز واللحم والدم. اتّبع المُعاش الأدبَ وصورَه، قبل أن ينكفئ ويتحوّلَ إلى احتمال دائم لتكرار التجربة إياها أو ما يماثلها.
أقفل الاحتلال الإسرائيلي باب الشمس وأعاد الحكاية إلى الرواية. لكن المخيّم واسمه ظلاّ إمكانية قد تتحقّق في أي لحظة وفي أي أرض فلسطينية مهدّدة بالمصادرة.
ودمّر النظام السوري بابا عمرو، لكن تجربته تحوّلت إلى حكاية تستحق الرواية يوماً. وقد نقل جوناثان ليتل عن بعض شبّان الحيّ الذي زاره قولهم: “قد نُقتل قريباً، ولم يعد الأمر بالمهمّ. يكفينا أن ثمة من سيكتب قصّتنا ويقول إننا عشنا أيامنا الأخيرة أحراراً ومشينا في شوارع حمص مرفوعي الرؤوس”.
انتصر الواقع المضاد على الواقع الذي جسّد المجاز، كما انتصرت أكثر من ثورة مضادة على الثورات.
على أن للمجاز وللأدب قوّة وسطوة لا يقوى العسف على محوها. فرواية «باب الشمس» ستستمرّ بعد المخيّم وقبل مخيّم آخر وبعده، وحكاية «بابا عمرو» ستبقى سرديّة مفتوحة على الفعل الروائي أو التأريخي القادم.
عودٌ على بدء
أعود إلى خوري. إلى ما أظنّه متعة فقدانه حقّاً أدبيّاً يُفترض أنه حصريّ – عنوان رواية مثلاً – وجعله ملكاً عاماً لأناس حقيقيّين يشبهون شخصياته أو يتماهون معها. فكيف إن كان الملك العام هذا استرداداً (ولَو مؤقّتاً) لمسروق، وتصدّ لاحتلال وقهر؟ وكيف إن كان تصرّفاً بما كُتب، في الأصل، ضمن سياق المعركة إياها ومن أجلها.
خوري رابح كأديب في فقدان حصريّته لـ”باب الشمس”. والأدب رابحٌ بوصفه مرآة للحياة، وبوصفها أيضاً ظلاً لخياله.
أما المجاز، فقصّته هنا قصة حياة وموت وقيامة.
“باب الشمس” مجاز تجسّد في مكان وناس ومخيّم. ثم نُحر. لكنّه في موت ناسوته وعودته إلى ملكوته، صار فرضية انبعاث دائمة. صار مجازاً للمجاز ذاته وصار احتمال تحقّق خاطف لنبوءة العودة والحب في جذع شجرة زيتون.
في بابا عمرو بوصفه مجازاً سورياً، لم يتوقّف اقتحام السماء. إذ انتقلت قصة الحيّ الحمصي المنكوب إلى القصير ثم حلب فالغوطتين الغربية والشرقية، وانتهاء بمخيم اليرموك. وإذا كان الاقتحام الأوّل واكبه توقٌ يتخطّى المجاز، فإن المأساة السورية اليوم، التي يواكبها خوري في كتابته السياسية الأسبوعية، لم يبقَ غير المجاز وآفاقه للانتصار لها.
في أي حال، قد لا يشفي الأدب والمجاز غليلاً ولا هو بالضرورة بناصرٍ لمهزوم، لكنه حكماً يحرس بقايا أمل، ويُبقي الرواية كما الحكاية: مفتوحةً على روايات وحكايات ومجازات جديدة…
Be the first to write a comment.