يحق للفلسطينيين والسوريين والعراقيين واليمنيين واللبنانيين أن يشعروا بالأسى والغضب وهم يقارنون بين المواقف الأوروبية والأمريكية اليمينية السائدة من غزو أوكرانيا ومن قضية اللاجئين الأوكرانيين وبين اللامبالاة والتواطؤ الغربيين، التي ترافقت مع مآسيهم، والكراهية العنصرية التي تجلت في المواقف من اللاجئين السوريين والأفارقة والأفغان.

المفاجأة التي قدمتها أوكرانيا في مأساتها هي أنه لا يحق لنا أن نُفاجأ بالعنصرية اليمينية الأوروبية التي استيقظت.

الحق في اللجوء طبيعي، ويجب أن يُدافع عنه، لكن التمييز بين اللاجئين بسبب اللون أو الدين أو العرق، يسيء إلى المسألة، ويحولها من قضية إنسانية إلى قضية تعصب.

كنا نعلم من تجربتنا الطويلة أن المسألة ليست في ازدواجية المعايير كما يقولون، بل في خوائها من المعنى.

المعايير التي تُطبق هناك لا تُطبق هنا، بل يجري تناسيها والتلاعب بها. هذا ما كان وسوف يكون، وكل أوهامنا من توق طه حسين إلى اعتبار مصر جزءاً من حضارة المتوسط، إلى استماتة الأتراك للدخول إلى الاتحاد الأوروبي، كانت حراثة في الماء.

ما نسيناه أو تناسيناه هو أن أوروبا لم تتحرر يوماً من عنصريتها. فالحداثة والتقدم العلمي والتكنولوجي لا يمكن فصلهما عن المسار الكولونيالي، الذي استعبد البشر ونهب الثروات الطبيعية وأسس لتجارة العبيد وأباد شعوباً بأكملها.

هذه العنصرية اتخذت أشكالاً شتى، وصلت إلى إحدى ذراها مع المحرقة النازية. غير أن بلاغة دروس المحرقة لم تعصم عن السقوط في الإسلاموفوبيا، التي هي اليوم الشكل الجديد للاسامية.

لكننا وفي غمرة غضبنا من العنصرية الأوروبية، ننسى أو نتناسى أو لا نجرؤ على النظر في مرايانا، كي لا نرى العنصريات والطائفيات المتنوعة الأسماء والأشكال، التي احتلت حياتنا في العقود الأخيرة!
تعالوا نتأمل في ظاهرة العمالة الآسيوية، التي تحولت إلى جزء من الحياة اليومية في بعض البلدان العربية، هنا اتخذت العنصرية ضد العاملات الملونات شكل العبودية.

وبعد ذلك، تعالوا نرى الهول في حياتنا الذي صنعته البنى المسيطرة على مجتمعاتنا. وأنا لا أشير هنا إلى البربرية المخيفة التي ظهّرتها الممارسة الداعشية، في تعاملها مع الإيزيديين والمسيحيين، فالظاهرة الداعشية كانت هامشاً مريعاً في حياتنا، يجب ألّا ننسى دروسها أبداً.

من الاضطهاد الوحشي للأكراد التي وصل إلى ذروته في مأساة حلبجة التي أبيدت بالأسلحة الكيميائية، إلى التعامل الفظ والوحشي مع اللاجئين السوريين في لبنان، إلى الظواهر الفاشية والطائفية التي سادت خلال قمع الانتفاضة الشعبية السورية، إلى الطائفية في العراق، إلى الحضيض المذهبي في الخليج، وصولاً إلى الاختناق الطائفي والعنصري، الذي يسود لبنان حالياً، من دون أن ننسى العنصرية المعلنة والمستترة تجاه الفلسطينيين التي تتخذ أشكالاً متنوعة وسط قرع طبول الدعم الكلامي لفلسطين وقضيتها وإلى آخره…

لعل عبارة إلى آخره مع نقاطها الثلاث، هي أكثر العبارات تعبيراً، حتى عندما تستبدل الأسماء بالنقاط، لأنها تفتح باباً لا تتسع له اللغة، وتترك القارئ أمام حريته في إضافة حقائق مطموسة أو لا تقال، كي لا يتحول القول إلى جرح لا يندمل.

النقاط الثلاث التي يسميها العرب علامات الحذف أو القطع، تؤجل الكلام ولا تلغيه، تعلّقه كي لا ينفجر ويتشظى. الوصف معلّق، لأننا لا نملك الجرأة على قول الأشياء، خوفاً على أنفسنا من مواجهة صورتنا. تعالوا ننظر في مرايانا، ليس بهدف تفهم العنصرية الأوروبية، بل بهدف مقاومتها. لا نستطيع مقاومة العنصرية بعنصرية مضادة، كما لا نستطيع تبرير عنصريتنا بعنصريتهم. حاولت إسرائيل جرّ الفلسطينيات والفلسطينيين إلى لغتها العنصرية والطائفية، إلى درجة أنها اخترعت أسطورة رمي اليهود في البحر، وتمسكت بها، حتى عندما كانت ترمي الفلسطينيين في البحر خلال اجتياح لبنان سنة 1982.

تبني لغة العنصريين الإسرائيليين يجردنا من حقنا، فحقنا ليس أسطورياً، إنه حق طبيعي ولا يحتاج إلى أي مبرر سواء أكان أسطورياً أو دينياً.

الخطر هو أن نتبنى لغتهم، فالعنصرية، عدا عن حقارتها الأخلاقية وسفاهتها، هي عار سيبقى ملتصقاً بمن يمارسه أو يدعو إليه.

الشعور بالأسى والغضب شرعي، لكنه يجب ألّا يحجب عن أعيننا أن الدفاع عن القيم الإنسانية ليست مسألة يمكن إخضاعها للمصالح الآنية، وأن الموقف الأخلاقي والمبدئي يجب أن يحافظ على ثباته في كل الظروف.

إدانة محاولات الحلف الأطلسي التوسع وضم أوكرانيا، يجب ألّا تحجب حق الشعب الأوكراني في الاستقلال وتقرير المصير.

كما أن إدانة الغزو الروسي، الذي شهدنا وحشيته التدميرية في سورية وسط صمت دولي مريب، يفقد معناه حين يتحول إلى عنصرية كامنة ضد الشعب الروسي والثقافة الروسية.

إن عالماً يُمنع فيه تدريس دوستويفسكي وتولستوي وبوشكين وتشيخوف ومايا كوفسكي، هو عالم ناقص يتصحّر روحياً.

يقال إن روسيا سقطت في المصيدة الأوكرانية التي نصبتها السياسة الأمريكية، وهذا صحيح جزئياً، لأن الشق الثاني من الحكاية هو أن العالم بأسره مهدد بالسقوط في هاوية العودة إلى الحروب الاستعمارية القديمة.
القدس العربي