أطبق لبنان القديم ولبنان الجديد على «حزب الله» وحلفائه، خصوصاً منهم «التيّار الوطني الحرّ». لقد أطبقا معاً، وفي وقت واحد، من خلال الانتخابات النيابيّة الأخيرة.

لبنان القديم، أي لبنان الطوائف، الذي لم يعد يطيق ازدواج السلاح، وضع «القوّات اللبنانيّة»، بالمناصفة مع الطرف العونيّ، على رأس التمثيل المسيحيّ، كما صوّت لبعض صقور السنة على رغم موقف سعد الحريري، حافظاً لوليد جنبلاط زعامة الطائفة الدرزيّة. هذا التحوّل حرم «حزب الله» من معظم حلفائه الأقوياء خارج طائفته، وحصره فيها. حرمه أيضاً بعض أبرز ملحقاته في الطوائف الأخرى، ممن هم بعض أبرز ملحقات النظام الأمني في دمشق.

لبنان الجديد، أي شبّان «المجتمع المدنيّ» وشابّاته، المهموم بالردّ على النهب والفساد، والمتفرّع عن ثورة 17 تشرين 2019، أعلن بوضوح أنّه يعي حقيقة الترابط بين النظام وحاميه العسكريّ. وهو، على قاعدة هذا الربط، أوصل إلى البرلمان، وللمرّة الأولى في التاريخ اللبناني الحديث، كتلة نيابيّة معتبرة قد يتسنّى لها تطوير معانٍ جديدة للسياسة وشقّ قنوات غير مألوفة لها.

هؤلاء الشبّان والشابّات هم الذين تعرّضوا، لدى تحدّيهم نظام النهب والفساد عام 2019، لقمع «حزب الله»، قبل أن يتعرّضوا لاتّهامات إعلامييه والناطقين بلسانه ولحملات تخوينهم.

بالقياس إليهم، وإلى لبنان الجديد الذي يرمزون إليه، باتت المقاومة تبدو شيئاً من ماضٍ كريه وبليد، شيئاً قديماً جدّاً، وإن كان يعاني، في الوقت نفسه، حصاراً سياسياً يفرضه عليه باقي القدامى.

والحال أنّنا نلاحظ، مرّة أخرى، تشابهاً نافراً بين الوضعين اللبناني والعراقيّ: العراق القديم، عراق الطوائف والإثنيّات، يصارع النفوذ الإيراني من خلال الكتل السنّيّة والكرديّة، فيما العراق الجديد، عراق الشبيبة، يكافح ذاك النفوذ وممثّليه من خلال الثورة المدنيّة التي أطلقها، قبل ثلاثة أعوام، حداثيّو البيئة الشيعيّة وعلمانيّوها.

لكنّ هذا كلّه يُستحسن ألا يحملنا على الظنّ بأنّ «حزب الله» سوف «يتفهّم» عدم تحمّل الأكثريّة اللبنانيّة لسلاحه ولنظامه، وألا يقودنا إلى ضرب من «الغباء البرلمانيّ» نظنّ معه أنّ الحزب سوف يمتثل لما يقرّره البرلمان الجديد ولما يصدر عنه. إنّ طبيعة هذا الحزب تدفع إلى الشكّ العميق برضوخه لـ«إرادة الشعب» كما عبّرت عنها الانتخابات النيابيّة.

صحيحٌ أنّ قادة «حزب الله»، بمن فيهم أمينه العامّ وأمينه العامّ المساعد، أكّدوا غير مرّة على أهميّة هذه الانتخابات وعلى وجوب الإقرار بالنتائج التي ستتمخّض عنها. هذه التوكيدات إنّما ظهرت للاستخدام في حالة الانتصار. أمّا في حالة الهزيمة، وهو ما حصل، فهناك توكيدات معاكسة وقابلة للاستخدام: ذاك أنّ الذين فازوا هم، بحسب بعض أقطاب الحزب، متآمرون، تقف وراءهم السفارات والمنظّمات الأجنبيّة غير الحكوميّة والمال الطائل، وهم «دروع لإسرائيل» يسعون إلى التطبيع معها، و«وقود لحرب أهليّة». وبالطبع فلمثل هؤلاء لا يجوز تسليم البلد.

وقد كان واضحاً على الدوام ميل الحزب إلى عسكرة الحياة السياسيّة وعسكرة انتخاباتها خصوصاً. فضدّاً على الممارسة الديمقراطيّة ولغتها، يستنفر «حزب الله» لغة الغلبة والإخضاع، والشهداء والشهادة، فضلاً عن العبادة العمياء لزعيمه.

أخطر من هذا هو ما أنذرتنا به خطابات حسن نصر الله التعبويّة التي سبقت الانتخابات، لا سيّما الإصرار على التنقيب عن النفط في جنوب الساحل اللبنانيّ. ذاك أنّ اللبنانيين، وفق رواية الأمين العامّ، يملكون «كنزاً» لا يجرأون على استخدامه خوفاً من إسرائيل والولايات المتّحدة. أمّا المقاومة فعلى أتمّ الاستعداد والجهوزيّة لأن تحمي عمليّة تنقيب شجاعة كهذه.

تلك رواية صالحة للاستخدام، في أي لحظة، استخداماً حربيّاً يُراد له أن يكون شعبيّاً: فهو يعد اللبنانيين الذين يكويهم الفقر والتعاسة بهذا «الكنز» الذي يملأ حياتهم بحبوحة وازدهاراً بعدما مُلئت بؤساً.

ولا يُستغرب أن يُعوّل على مغامرة عسكريّة ما، انطلاقاً من التنقيب، بوصفها ما يحوّل الأنظار عن نتائج الانتخابات الأخيرة، تماماً كما عُوّل على خطف جنديين إسرائيليين واستدعاء حرب تمّوز 2006 لنسف الأجندة الاستقلاليّة التي فرضتها اغتيالات 2005.

إنّ احتمالاً كهذا يمكن أن يواكب التوتّر السياسيّ، وربّما الأمنيّ، الذي سيلازم البرلمان الجديد في جميع محطّاته: من انتخاب رئيس للمجلس إلى اختيار رئيس للحكومة وتشكيل حكومة انتهاء بانتخاب رئيس للجمهوريّة. وهو توتّر لا بدّ أن يفاقمه إقدام معارضي الحزب، القدامى منهم والجدد، إذا ما أقدموا، على إنشاء جبهة ما تتوحّد فيها جهودهم وتتناسق.

فليس من المستبعد بالتالي أن يميل الحزب، مرّة أخرى، إلى معاقبة باقي اللبنانيين على ما أنجزوه في انتخاباتهم، وأن يتمّ ذلك باسم حمايتهم أو باسم ازدهارهم. ونعرف، بالتجارب الكثيرة التي عشناها، أنّ بنك الأهداف السامية التي تغطّي أعمالاً قليلة السموّ ليس أفضل من البنوك التي تحتجز أموال اللبنانيين.