وهكذا، وفي شهر حزيران (يونيو) من عام 2022، تحوّل حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى منظمة عالمية، وأطلق رؤية التحوّل الاستراتيجي داخل أوروبا وخارجها، مصنّفاً روسيا عدواً خطره مباشر، والأكثر جديّة معتبراً الصين خصماً لا يُستهان بخطورته ويتطلب استراتيجية متماسكة ومتطوّرة. حرب روسيا على أوكرنيا قلبت العلاقة بين الغرب وروسيا رأساً على عقب، وهي حرب لن تنتهي قريباً وقد لا تنتهي بخسارة أو انتصار استراتيجي لأي من الطرفين، روسيا أو أوكرانيا. الرابح هو منظمة حلف شمال الأطلسي.

هذه حرب حوّلت بحر البلطيق إلى بحيرة الناتو ووسّعت العضوية لتشمل السويد وفنلندا، فيما كان هدفها منع أوكرانيا من الانتماء إلى الناتو والحصول على ضمانات بعدم توسيع العضوية. قمّة الناتو في مدريد لم تكن أبداً استعراضية بل كانت حقاً سياسية وعسكرية بامتياز. فهي أقرّت زيادة عدد القوات الغربية على حدود روسيا الشرقية من 40 ألفاً إلى 300 ألف، معظمهم في بولندا والبلطيق، وفتحت الباب على وجود عسكري أميركي في أوروبا، لا سيّما في بولندا. الرئيس الأميركي جو بايدن خرج من القمة مرتاحاً لأنه حصل على الإجماع في شأن أوكرانيا، ولأن الدول الأوروبية وافقت على زيادة مساهماتها في موازنة الناتو بنسبة 2 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي GDP، وهكذا بات الحِمل الاقتصادي أكبر على أوروبا مما كان.

هذا ما حدث في مدريد في أواخر شهر حزيران. ماذا كان يحدث في الوقت ذاته في مدينة عشق آباد عاصمة تركمانستان في القمة السادسة لرؤساء دول كل من روسيا وإيران وأذربيجان وكازاخستان وتركمانستان المعروفة بمجموعة دول بحر قزوين؟

هناك كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحاول صوغ بنية هيكلية موازنة لمجموعة السبع التي تضم أكبر اقتصاديات الغرب التي عقدت قمتها الاثنين الماضي في ألمانيا، والتي سبق أن دُعيت روسيا إليها في مرحلة العز في السنوات الماضية قبل اندلاع الأزمات بينها وبين الغرب. لم يتمكن بوتين من امتلاك نفسه وازدرائه من ازدراء مجموعة السبع بروسيا، فعلّق على خلع قادة الدول السبع ستراتهم للظهور فقط بالقميص الأبيض بلا ربطة عنق، مستفهماً عما كانوا يعنونه من “خلع الملابس”، ومتسائلاً إذا كانوا يعنون بذلك “الجزء العلوي أو السفلي”، معبِّراً عن ظنّه بأن ذلك سيكون “مشهداً مقززاً على أي حال”.

على الصعيد الجدّي، وبين أبرز ما كان الرئيس الروسي يعمل على صوغه هو ترقية العلاقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية أثناء اجتماعه مع نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي في عشق آباد. فقبل قمّة قزوين، سبق وانعقدت قمّة “البركس” BRICS الافتراضية الأسبوع الماضي، والتي استضافتها الصين وضمّت قادة كل من روسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.

في قمّة “البركس” وافقت الصين وروسيا على دعم انضمام كل من إيران والأرجنتين إلى مجموعة “البركس”، الأمر الذي يفتح أمام إيران الفرص الاقتصادية ويشكّل قفزة سياسية لها. بالطبع هذه المجموعة، في رأي الرئيس الروسي، تشكّل تحدّياً جدياً لمجموعة السبع التي تضم كلاً من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، واليابان، وكندا، إلى جانب الاتحاد الأوروبي بصفته الضيف الدائم. في الواقع، وبحسب وصف أحد الخبراء في مجموعة “البركس” أنها “ليست سوى ملصق” أو “بوستر سياسي”، ذلك أن الخلافات الجديّة بين أعضائها ضخمة بالذات بين الصين والهند، أهم عضوين في المجموعة.

الأهم هو انتماء الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى “البركس”، لأن ذلك تترتّب عليه نتائج بعيدة المدى في إطار “الترويكا” التي تضم الصين وروسيا وإيران، والتي هي حجر أساس مهم للأطراف الثلاثة، كلٌّ لأسبابه.

محادثات الرئيسين بوتين ورئيسي تطرّقت إلى هذا الأمر، وأكدت أهمية توقيع المعاهدة الثنائية للتعاون الاستراتيجي الشامل، والتي يودّ الرئيسان توقيعها قريباً أثناء زيارة من بوتين لطهران، توافق الرئيسان عليها.

وفقاً لما نقلته المصادر المطّلِعة على فحوى المحادثات، أكد الرئيسان ما سبق ووضع أُسساً له وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أثناء زيارته الأخيرة لطهران (رجاءً مراجعة مقالة الأسبوع الماضي). بين أبرز الأمور التي تم تأكيدها على مستوى القمّة الروسية – الإيرانية هو أن روسيا اتخذت قرارها بالاعتماد كلياً على إيران ونشاطاتها في سوريا حمايةً لنظام بشار الأسد. بكلام آخر، لقد طوّر الكرملين العلاقات مع إيران إلى رتبة الاعتماد الاستراتيجي في سوريا والتوكيل الاستراتيجي في الشرق الأوسط بكل ما يعنيه ويتطلبه الأمر.

لم ينقطع الأمل كلياً من توصّل المفاوضات النووية مع إيران إلى اتفاق، لكن الفرصة تتضاءل وقد لا تزيد اليوم عن خمسة في المئة، بحسب تقويم الطرفين. ما أكده بوتين لرئيسي هو أن روسيا ستدافع بقوة عن مصالح إيران في محادثات فيينا التي انتقلت إلى الدوحة، والرامية إلى إحياء الاتفاقية النووية JCPOA ورفع العقوبات عن إيران. وبحسب الأجواء الروسية والإيرانية “لم يُقرَع الجرس الأخير” بعد لإعلان الوفاة، كما قال مسؤول سابق مطّلع على ما دار في المحادثات.

المباحثات الأميركية – الإيرانية غير المباشرة في الدوحة لم تنتهِ إلى النتيجة التي كان الأوروبيون يأملونها. فالحل الوسط صعب جداً أمام إصرار إيران على شطب “الحرس الثوري” من قائمة الإرهاب، وإصرارها أيضاً على عدم الكشف عمّا تخبّئه في برنامجها النووي، وهما أمران لا يمكن لإدارة بايدن الرضوخ أمامهما.

إلا أن إيران في حاجة لرفع العقوبات، وإدارة بايدن في حاجة لقطف ثمار نجاح المفاوضات التي استثمرت كثيراً فيها، وأوروبا لا تزال مستقتلة على إتمام الصفقة، وفلاديمير بوتين يودّ أن يكون عرّاب نجاح الصفقة إذا كُتِبَ لها النجاح كي يكون بوسعه القول إنه لا يزال قادراً على تسهيل مسألة دولية مهمّة أو تعطيلها.

أما إذا انتهت المفاوضات بالفشل، فتنوي روسيا وإيران إلقاء اللوم على الولايات المتحدة وإسرائيل معاً، وتنويان الاستفادة من الفشل ثنائياً على أكثر من صعيد. وكمثال، ستبدأ روسيا تسليم إيران الأسلحة التي تنصّ عليها صفقة التسلح بينهما، والتي تم تعطيلها بسبب العقوبات على إيران. أما إذا انتهت مفاوضات فيينا بالفشل فإن ذلك “سيحرّر” روسيا من الالتزامات وستضخ الأسلحة إلى إيران حتى من دون مقابل في الوقت الراهن. ففي مثل هذه الظروف، فإن إبراز الشراكة الاستراتيجية الروسية – الإيرانية بكل ما في وسعها القيام به من تخريب له ثمن غالٍ يفوق المال.

ما أكده بوتين أمام رئيسي، بحسب المصادر نفسها، هو أن روسيا ليست راغبة في هذا المنعطف بالذات بنزاع مع إسرائيل. الأسباب غير واضحة، لكن يبدو أنها تشمل عدم رغبة الكرملين بوجع رأس آخر في هذه المرحلة، كما قد تكون لها علاقة باحتمال عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم في إسرائيل. وللتذكير لقد كانت العلاقة بين بوتين ونتنياهو مميزة.

السلاح الروسي الجديد إلى إيران لن يبقى حصراً في إيران، بل إنه سيقع أيضاً في أيدي “حزب الله” اللبناني ومقاتليه في سوريا. فمزاج بوتين لا يستبعد كلياً حرباً مصغّرة بين إيران وإسرائيل إذا فشلت مفاوضات فيينا، ثم إن حرباً صغيرة مع إسرائيل ستفيد إيران.

حالما تعلن إيران رسمياً انسحابها من محادثات فيينا، ستكون أيديها حرّة ومطلقة بدعم من روسيا، والجبهة الأولى ستكون على الأرجح عبر سوريا ولبنان. إنها لعبة المجازفة التي تحتاجها الجمهورية الإسلامية الإيرانية ونظام “الحرس الثوري”، ويحتاجها نظام البوتينية في روسيا.

فلاديمير بوتين قد ينتظر قليلاً قبل الردّ على قمّة ناتو المهينة له، والتي تشكّل أكبر تحدٍ لروسيا، ثم إنه ليس في وارد التنازل والتراجع في كالينينغراد. سينتظر إلى حين اتخاذ الأوروبيين قرارهم في 10 تموز (يوليو) حول كيفية تطبيق قرار المواصلات عبر ليتوانيا إلى كالينينغراد. موسكو تأمل حلاً وسطاً لاستئناف الرحلات. أما إذا خابت آمالها، فإن الحديث يصبّ في خانة فرض ممر “كوريدور” على الأرض من بيلاروسيا عبر ليتوانيا إلى القاعدة الروسية العسكرية الضخمة في كالينينغراد. بكلام آخر، إنه مشروع مواجهة عسكرية مباشرة مع حلف الناتو.

كل شيء بات وارداً هذا الصيف، ومعظم الأمور مترابطة. هناك كلام اليوم عن احتمال ألا يقوم الرئيس بايدن بزيارة إسرائيل وفلسطين، ليس فقط بسبب الخلاف داخل إدارته في ما يخص المحطة الفلسطينية، بل أيضاً بسبب أزمة الحكم الإسرائيلية. فتقليدياً، تتجنّب الولايات المتحدة مثل هذه الزيارة في خضم أزمة حكومية داخلية في إسرائيل.

ولكن، لم يُعلَن عن أي استثناء للمحطة الإسرائيلية والفلسطينية، كما لم يُعلَن عن أي تأجيل أو إلغاء لزيارة بايدن الشرق الأوسط برمّتها، مع أن الكلام يتردّد في الكواليس. وهذا الكلام يشير إلى الأزمة الحكومية الإسرائيلية، والأزمة الإيرانية المترتّبة على احتمال فشل فيينا، وإلى قرار “الأوبك+” هذا الأسبوع بزيادة إنتاج النفط 648 ألف برميل يومياً في شهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس)، الأمر الذي لا يجعل مسألة الطاقة مُلحّة، وبالتالي يمكن تأجيل اللقاء الخليجي. وللتأكيد، هذا كلام الكواليس وليس كلاماً مؤكداً.

قمّة دول مجلس التعاون الخليجي المزمع عقدها في الرياض منتصف الشهر الجاري ستكون فائقة الأهمية لأسباب عديدة، استراتيجية ونفطية واقتصادية. فدول الخليج العربية تتموضع بتأن وبثقة بالذات، وهي تتواصل مع بعضها بعضاً ومع بيئتها الإقليمية، بما فيها الإيرانية والتركية وليس فقط العربية، بتجددية وعزم على إحداث نقلة نوعية في العلاقات. تركيا تتجاوب وتعيد اختراع نفسها. أما إيران، فإنها اللغز الدائم والأخطر.

النهار العربي