مقابل مشاهد البطولة والتضحية في مصارع القادة الشهداء، سواء في غزّة أم نابلس، ومشاهد الطفولة المروّعة المستباحة، سواء لأطفال قُتلوا أم قُهروا على رحيل ذويهم، غابت صورة قائد الشعب الفلسطيني محمود عبّاس (أبو مازن). لم يشاهد منذ بدأ العدوان على غزّة وعلى المسجد الأقصى ونابلس. هو عصبيٌّ ونزق عندما ترتكب المقاومة عملية، وهو صاحب مقولتي “عمليات حقيرة” و”صواريخ عبثية”، أو عندما يتعلق الأمر بإرسال تهنئة بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني. بحسب ما قال في أحد الاجتماعات القيادية، فإنه من عائلة معمّرة، وطمأنهم على وضعه الصحي. في عزّ المواجهات، يبدو أنه ينام مبكّرا، ولا يعكّر مزاجَه بمتابعة الأخبار، لكنه كان سيطير فرحا إذا اتّصل به بلينكن أو أرذل مسؤول إسرائيلي وحتى ضابط ارتباط. مشاهد التضحيات اليومية التي يقدّمها الفلسطينيون، وتفاعل العرب والعالم معهم، تؤكّد قدرة هذا الشعب على المقاومة، ولو بعد قرن من الصراع مع المشروع الصهيوني، بقدر ما تثبت أن قيادته المعمّرة لا تليق به، وليست في مستوى تضحياته.

لم يكن منتظرا في المواجهة أخيرا في فلسطين من الرئيس أبو مازن أن يفعل ما كان يفعله أبو عمّار، ويهرّب السلاح بسيارته، ويحث أجهزته الأمنية على الالتحاق بالمقاومة، ويوقف التنسيق الأمني. كان متوقّعا أن يطلق صواريخ من الكلام في مواجهة همجية الحكومة الإسرائيلية التي بادرت بالعدوان. كان من المفروض أن يذكّر العالم بغياب “الشريك” الإسرائيلي منذ اغتال الإسرائيليون رابين. كان من المفترض أن يعرّي أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرّفا. لم يكن ليُتّهم بالإرهاب لو زار نابلس، وقبّل جبين الشهيد إبراهيم النابلسي ابن حركة فتح التي يحكُم باسمها. لا ينتقص منه لو اتصل بقادة حركتي الجهاد الإسلامي وحماس وباقي الفصائل، وأظهر وحدةً، ولو شكليةً، أمام العدوان. كان بإمكانه أن يُفسد على الصهاينة فرحة التطبيع المجاني، لو أحرج الدول المطبّعة، وطالبها بتخفيف وتيرة التطبيع رفضا للعدوان.

لن يتوقّف العدوان لو أطلق أبو مازن صواريخه، لكنه كان سيساهم في استثمار التضحيات الهائلة لصالح القضية، فالجريمة بحقّ غزّة تحديدا ليست جديدة، الجريمة الكبرى في الاحتلال والحصار، لا توجد مجموعة بشرية في العالم تعرّضت لعقابٍ جماعي مثل أهل غزة المحاصَرين منذ 15 عاما. تماما كما لا يوجد بشر صمدوا وقاوموا مثلهم، فثلثا سكان غزة البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة تقلّ أعمارهم عن 25 عامًا. كانوا أصغر من أن يصوّتوا في انتخابات عام 2006. إنهم يعانون من عواقب الحصار الذي يعاقب الجميع. مثل الشباب في كل مكان، يجب أن يخطّطوا للمستقبل: المدرسة والعمل والأسرة. لكنهم يعيشون في مكان يحرمهم من أي أمل.

يتخرّج ما بين 15000 و18000 من سكان غزّة من الجامعة كل عام، وهذا ليس أمرا هيّنا، فهم يدرسون على ضوء الشموع وسط انقطاع التيار الكهربائي بمعدل 11 ساعة في اليوم. يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر، سمير أبو مدلّلة، لمجلة الإيكونومست، إن عديدين من طلابه يطلبون حضور الفصل ثلاثة أيام فقط في الأسبوع، لأنهم لا يستطيعون تحمّل تكاليف المواصلات.

لقد تخرّجوا في سوق عمل حيث معدل البطالة هو 47%، و70% للشباب. أولئك الذين يجدون عملاً يتقاضون أجرًا يوميًا في المتوسط يبلغ 33 شيكلًا فقط، أقلّ بالثلث من الضفة الغربية. أظهر استطلاع حديث أن 37% من سكان غزّة يريدون الهجرة، مقابل 20% من فلسطينيي الضفة الغربية. لكن الوظائف الأجنبية والتأشيرات قليلة. في بعض الأحيان، لا يستطيع الطلاب الذين يفوزون بمنح دراسية في الخارج الوصول إلى هناك، حيث يمكن لحوالي 500 فلسطيني فقط أن يُغادروا يوميًا عبر معبر رفح إلى مصر، الأمر الذي يتطلّب انتظارًا طويلاً أو رشوة باهظة. معظم شباب غزّة لم يغادروا قط.

تقول منظمة إنقاذ الطفولة الخيرية إن 77% ممن تقل أعمارهم عن 17 عامًا يعانون من الاكتئاب، وأكثر من نصفهم يفكّرون في الانتحار. وقد غرق بعضهم وهم يحاولون الهروب على متن قوارب متهالكة عبر البحر الأبيض المتوسط..

هذا هو المشروع الصهيوني، لم يتوقف عن القتل منذ قرن، ولم يستسلم الفلسطينيون. من يقاتلون اليوم كانوا رفاق الطفل محمد الدرّة عندما قتل قبل عقدين في انتفاضة الأقصى، وإبراهيم النابلسي الذي فضّل الشهادة على الاستسلام هو من جيل “أوسلو” الذي أنتج شبابا مقاتلين دون الحق الفلسطيني، وعملاء يشون بهم تحت مسمّى التنسيق الأمني. الصاروخ الاستراتيجي الذي بإمكان أبو مازن أن يطلقه هو وقف التنسيق الأمني أو العمالة العلنية.