بعد هزيمة الخامس من حزيران / يونيو، كتب صادق جلال العظم كتابين أثارا ضجة كبرى في العالم العربي: «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، و»نقد الفكر الديني». يمكن قراءة الكتابين بصفتهما نقداً لتصدعات مشروع الحداثة، ودفاعاً عن فكر الحداثة في آن معاً.
فهزيمة المشروع التحديثي الذي قادته الجيوش، وعلى رأسها الجيش المصري، بدت حتمية بعد هزيمة هذه الجيوش المخزية، وانهيار المشروع الناصري الذي لم يخلف وراءه سوى ديكتاتوريات وحشية وهزلية، من القذافي إلى البعثيين، إلى آخره… تحطمت الحداثة العربية على حائط الاستبداد الذي احتمت به، مثلما تحطم المشروع النهضوي بقيمه الليبرالية على صخرة عجزه عن منع تقسيم المنطقة، وعدم قدرته على إنجاز الاستقلال، وهزيمته في حرب النكبة عام 1948.
بين الخامس من حزيران 1967 وأيامنا هذه جرت تحولات كبرى في المشرق العربي، من صعود الثورة الفلسطينية إلى الحرب الأهلية اللبنانية، إلى غزو العراق، وصولاً إلى ثورات الربيع العربي المجهضة، هذا من دون أن ننسى ظاهرة الصعود الإسلامي ووصوله إلى ثلاثة تحولات مفصلية: القاعدة في مقتلة نيويورك، وتنظيم «الدولة» في سوريا والعراق، وصعود الإخوان المسلمين وسقوطهم في مصر.
لم تستطع الحداثة إنقاذ نفسها، لأنها كانت مصابة بمرضين: عقم العسكرتيريا ونزعتها الاستبدادية، وعجز اليسار.
هكذا دخل العالم العربي في مرحلة ما بعد الحداثة، وهو مثخن بالاستبداد.
مرحلة ما بعد الحداثة ترث محاولتين مجهضتين: النهضة والحداثة، وتقف على أرض تتداعى فيها القيم، وسط عالم جعلته الرأسمالية النيوليبرالية أكثر توحشاً.
يشكل المشروع ما بعد الحداثي الذي يتبلور اليوم في الخليج العربي، نموذجاً للمسار الذي يرتسم في الأفق العربي.
فما هي سمات هذا المشروع: يمتلك هذا المشروع ثلاث سمات.
السمة الأولى هي استبداد لا يرحم، وقدرة على تطويع الناس عبر مزيج من الرشوة والخوف، وقابلية للمرور من بين كل نقاط الكلامولوجيا عن حقوق الإنسان، التي لا تمثل شيئاً بالنسبة للإمبراطورية الأمريكية التي تخوض اليوم إحدى أشرس معاركها من أجل ديمومة هيمنتها.
هذا الاستبداد يمضي بسلاسة رغم بعض الضجيج المفتعل، لأنه يعبر عن مصالح فعلية لم تعد تمتلك رفاهية الدفاع عن قيم يجري التخلي عنها بسهولة.
شرط زمن ما بعد الحداثة الذي أنتجته الرأسمالية المتوحشة هو غياب القيم وتحويل الكلام إلى سلعة.
السمة الثانية هي الترفيه، الترفيه وليس الرفاهية.
فبعد نجاح ولي العهد السعودي في ترويض آلة الحكم في بلاده، ذهب إلى مشروعه الضخم، في مدينة «نيوم»، كما فتح بلاده على جميع أشكال الترفيه، وهو يسعى إلى بناء دبي جديدة. عنوان الانفتاح اليوم هو سيل المطربات والمطربين العرب، الذين يغنون ويتراقصون على المسارح.
هذا الانفتاح على الغناء والموسيقى بعد سنوات التصحر، يبدو للوهلة الأولى إيجابياً، لكنه يعبر في العمق عن فهم محدد لمعنى الحداثة، إنه القشرة التي يحتمي بها النظام، كي يتجدد ويشدد قبضته.
السمة الثالثة هي إسرائيل، فوسط سيل الجرائم الوحشية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، تتمادى أنظمة اتفاقات أبراهام في تعميق علاقاتها مع دولة الاحتلال.
فهي صارت طرفاً مؤيداً للاحتلال، وجزءاً من منظومته.
والأمر ليس مستغرباً، فالاستبداد هنا يتفهم دوافع الاستبداد هناك ويدعمها.
أما القيم الإنسانية فلم يعد لها أي مكان في إعراب المرحلة.
هذه السمات الثلاث تعمل بتناغم داخلي، لأنها مغطاة بمرهم الثروات النفطية الهائلة.
أما في دول أخرى كمصر وسوريا ولبنان، فإن الفقر والاستبداد والنهب حوّلت الحياة إلى جحيم.
تعالوا نشاهد من جديد فيديو اغتيال الشهيد عمار حمدي مفلح في حوارة- نابلس منذ أيام قليلة.
شاب تجري محاولة اعتقاله، فيشتبك بالأيدي مع الجندي الإسرائيلي، الجندي يفقد السيطرة على بندقيته، فيسحب مسدسه ويطلق النار.
حين رأى الشهيد المسدس أفلت البندقية، لكن الجندي الذي استبد به الغضب والخوف أطلق عليه أربع رصاصات وقتله.
هذا ليس إعداماً مثلما قيل، هذه جريمة واضحة المعالم.
لكن الجندي مغطى بخطاب إسرائيلي رسمي سمعناه من فم لبيد، رئيس الحكومة المنتهية ولايتها.
الآلة القمعية الإسرائيلية تكذب وتعرف أننا نعرف ذلك، لكنها تتابع الكذب، فهم غير معنيين بالحقيقة، إنهم في لحظة توحش ما بعد الحقيقة، ويستعدون لمزيد من القتل.
فالعرب لا يبالون، والسلطة الفلسطينية تنسّق ولا تلوي على شيء، والعالم مشغول بالحرب الأوكرانية.
زمن ما بعد الحداثة في صيغته الإسرائيلية التي يحتلها المتدينون والعنصريون والفاشيون، لن يكون أكثر رحمة من وحشية حكومة لبيد-غانتس.
بل سيأخذ الوحشية إلى ذروة جديدة، وسيتابع اللعبة الوحيدة التي يتقنها الجيش الإسرائيلي والمستوطنون، وهي قتل الفلسطينيين ودفعهم إلى جحيم حياة يومية لا تطاق.
أما ما بعد الحداثة على الطريقة اللبنانية، فهي كناية عن حفلة تهريج متقنة، نجحت في استغلال نقاط ضعف انتفاضة 17 تشرين بعد ترهيبها بالميليشيات الطائفية، ثم جرتها إلى لعبة البرلمان، حيث تم تناسي جريمة المرفأ، وفضيحة الإفلاس، ونحن الآن مشغولون بمسرح هزلي اسمه انتخاب رئيس جديد للجمهورية التي اندثرت.
ما بعد الحداثة العربية هي مرحلة غيبوبة شاملة تحتاج إلى نقد أكثر صرامة من نقد صادق العظم لمرحلة الحداثة، لأنها تُخرج العالم العربي من الخريطة، وتحول الشعوب العربية إلى كومبارس في مشهد مأتمي طويل.

القدس العربي