يستحي السياسيون أن يقولوا الحقيقة، يحسبون العواقب، ينتظرون اللحظة المناسبة ثم يقولون جزء صغيرا من الحقائق لكي يدفعوا ثمن هذا الجزء بالتقسيط المريح، لأن ثمن الحقيقة الكاملة باهظ..
ويخاف آحاد الناس أيضا من قول الحقيقة، فثمنها غال غال، خصوصا في عصور استبداد السفلة السفهاء..
ولكن قد يفقد الإنسان كل شيء، أمواله وأسرته وأبناءه ومكانته الاجتماعية، ولا يتبقى لديه من شيء يخاف عليه، حينها يتشجع البعض.. ويقولون الحقيقة !
وهناك قلة من الناس يقول الحقيقة قبل أن يخسر، نعم.. بعض الناس يقرر أن منهجه في الحياة سيكون كلمة الحق، ولا شيء إلا كلمة الحق.. يقولها وهو يعرف أن كلمة الحق لن تبقي له صديقا، ولا زوجا، ولا أبناء، ولا مالا، ولا مكانة اجتماعية (إلا إذا انتصر الحق).. يقول الحقيقة محتسبا ذلك عند الله في الدنيا والآخرة.. يقول الحقيقة لكي يسجلها التاريخ، ولكي ينتفع بها من يرغب في الاعتبار، ولكي يتعلم منها من سيكمل الطريق من بعده.

طالعتنا الأخبار بالجريمة المخزية التي ارتكبها الشاب المدعو “رامي فهيم” نجل الوزيرة الإرهابية التي حرضت على قتل المعارضين المدعوة “نبيلة مكرم”، وكانت ردود الأفعال والتعليقات متباينة.
ولكن رغم كثرة التعليقات، هناك وجهة نظر يخاف كثيرون من التعبير عنها.. وجهة نظر كثير من المواطنين الذين هالهم تفاصيل هذه القضية المخزية، بكل ما فيها من تكسب غير مشروع، وسقوط أخلاقي، وخسة وغدر.. وهالهم أكثر ما هالهم الطلب القذر الذي تطالبنا به سلطة الأمر الواقع التي تحكم مصر بقوة السلاح من ضرورة (التعاطف مع الأم المكلومة) !
الحقيقة.. أن هناك عشرت الملايين من البشر لم يعد لديهم طاقة انفعالية يمكن استخدامها للتعاطف مع السيدة الوزيرة التي عينتها سلطات الانقلاب العسكري، بل العكس هوالصحيح..
هناك ملايين البشر يتمنون ويدعون الله سبحانه وتعالى ويضرعون إليه أن يروا ابنها معلقا على حبل المشنقة، أو جالسا على كرسي كهربائي والتيار يصعقه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.. يتمنون لو أتيح لهم أن يشاهدوا هذا المشهد بأعينهم.. ويتمنون أن يشاهدوا السيدة الوزيرة وهي تشاهد هذا المشهد بأم عينها، ويتمنون لو كانوا بجوارها في تلك اللحظة ليقولوا لها في وجهها “ذوقي.. اشربي.. اجرعي من كأس الألم.. ولكن اعلمي الفرق بيننا وبينك.. أنت تجرعينها بالحق والعدل، وغيرك قد تجرع كأس السم ظلما”

هؤلاء امتلأت قلوبهم بالرغبة في العدل بسبب ملايين المظالم، وكل له مظلمته.
إنهم لا يجدون مساحة في قلوبهم للتعاطف، فقد أنفقوا زهرة أفئدتهم وزهوة عيونهم منذ سنوات في بكاء متواصل على المعتقلين وذويهم، والمختفين قسريا وأسرهم، وعلى الذين أعدموا في رمضان دون أن يحظوا حتى بحق الزيارة الأخيرة من أحبابهم، وعلى الذين أعدموا في الأشهر الحرم، وعلى الذين أعدموا وقتلوا في غياهب السجون ثم دفنوا بليل في مقابر الصدقة (كما كاد يحدث مع الشهيد أيمن هدهود)..
لقد ذرفوا دموعا حَرَّى مع السيدة الفاضلة أم البرلماني المغدور الدكتور “مصطفى النجار” ردّه الله إلينا ردا جميلا.. (ومع مئات الأمهات ممن هم في مثل حالها).
لقد بكوا كثيرا حين رأوا السيدة الدكتورة “ليلى سويف” وهي تجلس منذ سنوات أمام السجن ساعات وساعات، تارة من أجل ابنها علاء، وتارة من أجل ابنتها سناء.. (ومع مئات آلاف من الأمهات الواقفات أمام أبواب السجون في محافظات مصر كلها).
لقد تقطعت أكبادهم على “أسماء البلتاجي”، وعلى “حبيبة”.. لقد ذبحت قلوبهم وهم يرون ضباط الجيش وهم يقتلون أطفال سيناء، ويسجلون ذلك بالصوت والصورة..
عشرات الملايين من البشر.. كل واحد فيهم يقف مثقلا بجبل من المظالم، مظالمه هو، ومظالم آخرين من بسطاء الناس، وكل واحد من هؤلاء المظاليم يرى في السيدة الوزيرة وفي القتلة الذين وظفوها – لتيسير تكسبهم وتهريب أموالهم للخارج – عدوا مسؤولا عن شقائهم.
هؤلاء المأسورون في بلادهم، يشاهدون مذيعين ألسنتهم أقذر من العذرة، ويقرأون لصحفيين حبر أقلامهم أنجس من فم الكلب، ويتعاملون مع نظام لا يعرف إلا التعامل بالرصاص الحي.. إنها أمة كاملة تقف أمام حاكم يبدو كضبع مسعور يمسك رشاش “عوزي” إسرائيلي ويقول: (ارفع يديك.. وهات كل أموالك.. وإلا سأضرب في المليان)..

هؤلاء الملايين لا يستطيع أحد أن يعبر عنهم، فما في صدورهم يحرج السياسيين والإعلاميين، إذ من غير اللائق أن يجاهر أحد بقوله (نتمنى أن تطبق عقوبة الإعدام على ابن فلانة) !، هذا غير لائق.. أليس كذلك؟.. ولكن الحقيقة المرّة أن هذه أمنية ملايين البشر.. (بغض النظر عن رأينا في مدى منطقية هذه الأمنية).
هؤلاء الملايين حقيقة مشاعرهم أنهم يتمنون أن تثبت الجريمة على ابن الوزيرة، بحيث يكون حكم الإعدام تحقيقا للعدل.. إنهم يتمنون أن يروا ظالمهم مهانا (بالعدل).
يريدون أن يتحقق عدل الله أمام أعينهم في الأرض، بعد أن دعوا الله لسنوات طوال منذ عام 1952م متسائلين (متى نصر الله) !
والحقيقة الأكثر مرارة أن هذا الأمر هو الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار في بلادنا، بل في منطقتنا كلها، تلك المنطقة التي تعيش تحت انقلابات عسكرية قتلت ملايين البشر، وظلمت الشعوب لعشرات السنين.. دون حساب يذكر !
إن الحل الوحيد لاستقرار مصر – والوطن العربي بالتبعية – هو برنامج عدالة انتقالية يضمن تحقيق العدل بين الناس، وهذا أمر لا يمكن أن يتم دون تغيير سلمي يؤدي إلى نظام حكم يملك سلطة حقيقية، بحيث تتمكن هذه السلطة من تحقيق العدل، بمحاسبة كثير من هؤلاء القتلة المجرمين بما يستحقون من عقوبات ناجزة، وبغير ذلك الحساب لن يتحقق في مصر عدل، لا على المدى القريب، ولا على المدى البعيد، وبغير ذلك لن تعرف البلاد استقرار، ولا تقدما، ولا تنمية، ولن تتمكن من مواجهة التحديات الوجودية التي تسببت فيها أنظمة حكم خائنة فرطت في كل شيء.

سيستغل أذناب النظام كلمة الحق لإظهار من يطالب بالعدل على أنه شخص حاقد، سيقتطعون أجزاء من هذه المقالة لتصوير من يعبر عن ملايين البشر وكأنه شخص موتور إرهابي يحمل الضغائن، ويتمنى إعدام شاب في ريعان الشباب، وهذا أمر لا يخيف من تعود الجهر بالحق، ولا يهز شعرة في رأس من دفع ثمن كلمة الحق آلاف المرات..
ما زلت أقولها.. هناك ملايين البشر يتمنون أن تثبت التهمة على ابن الوزيرة، وأن ينال جزاءه بالإعدام، لكي يذوق هؤلاء القتلة الذين قتلوا الآلاف، وسجنوا مئات الآلاف، وأخفوا ما لا يحصى من البشر في السجون أو القبور.. لكي يذوقوا بعض الذي أذاقوه شعوبهم.. هذه أمنيتهم، وليست أمنيتي..

أما أنا.. فأمنيتي الشخصية أكبر من إعدام ابن الوزيرة بكثير.. أنا أتمنى أن يمكّن الله الشعب المصري من حكم نفسه، عبر طليعة ثورية متحدة، قادرة على قيادة تحول ديمقراطي، يفرز نظاما عادلا قويا، يحقق العدل بين الناس، ويكون من ضمن ما يفعله هذا النظام أن يأخذ حقوق الناس من النظام العسكري الظالم، بأحكام قضائية ناجزة عادلة، تدفع كل من يحمل السلاح من العسكريين إلى التفكير ألف مرة قبل أن يتلقى مكالمة هاتفية من تل أبيب أو من أبوظبي أو من الرياض.. تغريه بدولارات كثيرة، ومقاعد حكم وثيرة، ليقوم بانقلاب عسكري، أو باغتيال رمز من رموزنا الوطنية..
أنا لا يعنيني أن تعدم محكمة أمريكية ابن وزيرة.. بل أتمنى أن يحكم المصريون أنفسهم، وأن يحققو العدالة لأنفسهم، وأن يأخذوا حقوقهم من ظالميهم.. بأيديهم.. لا بأيدي الأمريكان !

موقع عربي 21