تتضارب الآراء بشأن ما سيفعله النظام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الأشهر المقبلة كي يسيطر على الوضع الداخلي ويحمي نفسه وأجهزته أولاً، وكي يؤمّن مكتسباته الاقليمية في لبنان وسوريا والعراق واليمن ثانياً، وكي يمتّن تحالفه الاستراتيجي مع روسيا في حربها على أوكرانيا ومع الدول الغربية ثالثاً.
القاسم المشترك بين الآراء المختلفة هو توقّع تطوّرات عسكرية في الأشهر الستة المقبلة تساهم في تقرير مصير النظام في طهران وستكون بموجب عمليات إسرائيلية لمنع إيران من أن تتحوّل إلى دولة نووية بحسب رأي البعض، فيما يصرّ أصحاب الرأي الآخر على أن إيران هي التي ستقوم بعمليات استباقية ضد إسرائيل وفي مضيق هرمز حفاظاً على النظام من الخطر الخارجي والداخلي على السواء.
التفاوت بين السيناريوين ضخم: المقربون من النظام في طهران يستبعدون قطعاً كسره ويعتبرونه صامداً بأدوات عدّة منها الأدوات التخريبية والحربية، وهم يتوقعون أن يقوم رجال النظام قريباً بعمليات تختلق الأزمات الإقليمية هرباً من تطويقهم عبر التطورات الداخلية. أصحاب الرأي الآخر يشيرون الى تبعثر النظام وإلى إمكانية سقوطه بالذات على ضوء عمليات عسكرية إسرائيلية تنسف البرنامج النووي الإيراني، وتلقى دعم الولايات المتحدة والصمت العالمي، وتغيّر المعادلة الداخلية.
قراءة المشهد الإيراني تفيد بأن قادة النظام في حاجة الى حمايته وضمان استمراريته بكل الوسائل وبأيّة كلفة، ولذلك هم منشغلون بتصفيات داخل النظام وبإجراءات تنصبّ على حماية أجهزة نظام آية الله علي خامنئي بالذات خلال الأشهر الثلاثة المقبلة. القمع سيستمر كي لا تتطوّر الاحتجاجات الى درجة الخروج عن سيطرة النظام عليها، ولن يتردد رجال النظام في تصعيد دمويّة القمع والإعدامات. إنهم غاضبون وليسوا خائفين من تداعيات اختلاق نزاعات إقليمية لتحويل الأنظار عن الداخل الإيراني وعن ضعفهم أمام شعب يرفضهم. لكن السؤال الأساسي هو التالي: هل سيغامر رجال النظام بعمليات خارجية في الأشهر الثلاثة المقبلة، أم أنهم سيركزون حصراً على لجم التطورات الداخلية وينشغلون بإخماد الانتفاض عليهم؟
يرى أحد المخضرمين في قراءة المشهد الخليجي أن النظام في طهران لن يسقط إلا بسبب السلاح النووي، وأن على الإيرانيين الاختيار بين سلاح نووي يبنونه، وبين سلاح نووي يقضي عليهم.
هناك انطباع عام بأن إسرائيل ستنفّذ ضربات داخل إيران لمنعها من امتلاك القنبلة النووية، بل إن البعض يتحدّث عن نافذة زمنية لهذه الضربات بين شهر آذار (مارس) وشهر حزيران (يونيو)، أي في غضون الستة أشهر المقبلة. قد لا تدخل الولايات المتحدة طرفاً مباشراً في حرب ضد إيران تشنها إسرائيل، لكن واشنطن والعواصم الأوروبية ستؤمن التحصين السياسي لإسرائيل، وقد لا تتردّد في توفير الغطاء الجوي للعمليات الإسرائيلية لمنع إيران من حيازة القنبلة النووية.
السلاح النووي الذي أراده النظام في طهران أن يكون رادعاً قد يتحوّل الى حافزٍ لإسقاط النظام. هشاشة النظام ستزداد تفاقماً إذا نفّذت إسرائيل ضربات ناجحة ضد البرنامج النووي، وهذا بدوره سيعزّز من حشد الغضب الشعبي منه، عكس ما يراهن البعض عليه داخل جهاز الحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فهؤلاء يعتقدون أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لن تدعم إسرائيل في عمليات عسكرية ضد إيران، وأن الشعب الإيراني سيزداد قوميَّةً إذا ما تعرّضت إيران لضربة إسرائيلية، وهذا سيحوّله تجاه النظام وليس ضده. العكس قد يكون صحيحاً بتفاقم الغضب الشعبي الإيراني من حكّام النظام وبرامجهم النووية.
فالإيرانيون قد يختارون العودة الى حياة طبيعية بلا السلاح النووي الذي سيقضي عليهم مرتين: مرة لأن الطموحات النووية دمّرت الطموحات النهضوية والحضارية لهذا الشعب، ومرة لأن القرار الدولي هو منع إيران من امتلاك السلاح النووي. فمصير إيران سيُقرّره العنصر النووي في حسابات النظام وحساب الشعب في إيران، وهذا سيحصل في غضون 8 أشهر، لأن الروزنامة النووية الإيرانية تفرض ذلك التوقيت، عملياً.
ترسانة النظام الإيراني في المواجهة التي يستعدّ لها هي ترسانة إقليمية بحيث سيسعى رجال طهران نحو تأمين قاعدة النظام في سوريا والعراق ولبنان واليمن. فهذه الترسانة وتلك القاعدة هي أهم وسائل تحويل الأنظار عن تبعثر النظام الحاكم في إيران.
الأولوية في هذا الإطار هي للحفاظ على مكتسبات “الحرس الثوري” الإيراني ولعب الأوراق في القاعدة الإقليمية بما يخدم النظام الإيراني ويعزّز بقاءه. هذا يعني تعزيز تمركزه في الدول الأربع، وكذلك لدى حركة “حماس” في غزة والتي ستكون ذات أهمية ريادية لطهران إذا ما كانت حقاً تعتزم القيام بعمليات عسكرية استباقية ضد إسرائيل مباشرة، كما تزعم. فليس واضحاً إن كان الكلام عن عمليات استباقية هو للتسويق في مخادعة bluff شموخ لا أساس لها لأن إيران ليست قادرة على تحمّل تداعيات العمليات العسكرية الاستباقية ضد إسرائيل. أو، إذا كانت المؤسسة الحاكمة قد وصلت الى حافة القرارات المصيرية حتى ولو كانت تبدو انتحارية.
“حزب الله” اللبناني ورقة ثمينة لـ”الحرس الثوري” الإيراني قد يقرّر عدم المغامرة بها فوراً كي تبقى ورقة تفاوضية في نهاية المطاف. لكن ازدياد التوتر واختلاق العراقيل سيكون من أدوات السيطرة الإيرانية على لبنان. مصير لبنان قد يرتبط كليّاً بمصير إيران، لكنه من ناحية أخرى، قد يتحرّر من العقدة الإيرانية إذا ما أدّت التطورات الى التجزئة والى اللامركزية التي باتت شبه ضرورية لتفادي الحروب الداخلية في لبنان.
0 seconds of 0 secondsVolume 0%
العراق لن يخرج بسهولة من القبضة الإيرانية وسيبقى رهن شتى المعادلات الداخلية السنية – الشيعية والشيعية – الشيعية، والدولية بالذات منها المعادلات الأميركية – الإيرانية.
اليمن سلاح في أيادي رجال طهران يقررون كيفية استخدامه تهادنياً مع الدول الخليجية العربية حيناً، وتصعيدياً إذا قرّرت طهران اختلاق الأزمات بالذات في مضيق هرمز. واللافت أن روسيا باتت مستفيدة من أدوات التصعيد الإيراني للأسباب التي فرضتها عليها الحرب الأوكرانية.
في سوريا، حيث كانت روسيا صاحبة القرار النهائي، باتت إيران مُكلّفةً روسياً بالقيام ليس فقط على أداء وبقاء نظام بشار الأسد، وإنما أصبحت إيران موجودة في العمق السوري بكل مظاهر السيطرة والتأثير والهيمنة، عسكرياً وسياسياً واجتماعياً. سوريا المفككة أصبحت خياراً أفضل للسوريين من سوريا الحروب والنكايات العسكرية. لذلك يجري الحديث داخل حتى صفوف المعارضة في اتجاه الحفاظ على استمرارية الوضع الراهن، بكل مساوئه، تجنّباً للمزيد من هدر الدماء حتى تحت النفوذ الإيراني.
أصبح الحلم باللامركزية في سوريا مطلباً في القنوات الخلفية لأن التجزئة أفضل من التقسيم، ولأن الوضع الراهن أفضل من العودة الى سنوات الحرب والدمار. ثم أن سوريا شأنها شأن بقية المنطقة سيتقرّر مصيرها الى درجة كبيرة مع اختمار مصير إيران.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية قرّرت ربط مصيرها استراتيجياً بمصير روسيا وهي تعكف على توطيد التحالف والتعاون العسكري والاقتصادي في زمن العقوبات المتزايدة على الدولتين. خسارة روسيا اليوم من الحظر الغربي على نفطها تبلغ 172 مليون دولار يومياً. خسرت روسيا 80 في المئة من صادراتها من الغاز. ومع حلول مطلع شباط (فبراير) وتوسيع العقوبات لتشمل المشتقات النفطية مثل الديزل، ستبلغ خسارة روسيا 220 مليون دولار يومياً.
أحد الخبراء الضالعين في الشأن الروسي – الإيراني يرى أن اختلاق إيران لأزمة في منطقة الخليج، بالذات في مضيق هرمز، مفيد جداً لروسيا. شن عمليات إيرانية في المضيق سيؤدّي الى أزمة إقليمية تساعد روسيا لأنها ستؤدّي فوراً الى ارتفاع في أسعار النفط. رأيه أن الغرب لن يتدخل إذا ما شنت طهران عمليات في مضيق هرمز بسبب انشغال أوروبا بمصيرها وبسبب انشغال الولايات المتحدة بفضائح الرئيس جو بايدن وسلفه الرئيس دونالد ترامب الناتجة عن العثور على وثائق حكومية سريّة في مقرات إقامتيهما خارج البيت الأبيض.
“هذه أحلام روسية”، علّق مسؤول خليجي رفيع سابق “فالإيرانيون لن يضحّوا بأنفسهم من أجل روسيا”. رأيه أن قيادات إيران لن تغامر في عمليات تخريبية في مضيق هرمز لأنها منشغلة جدّاً بنفسها، ولأن الكلفة غالية.
مشكلة روسيا أنها ليست على وشك الحسم في حربها الأوكرانية مع حلول ذكرى سنة على هذه الحرب التي غيّرت العالم، ولم تأتِ بالفائدة على روسيا. انتصارات روسية الميدانية صغيرة ومبعثرة، بل بعض منها محرج لموسكو لأنها انتصارات لجماعات المرتزقة وليس للجيش الروسي.
لا حلول سلميّة في الأفق ولا بوادر لوقف النار بين روسيا وأوكرانيا في القريب. العمليات الهجومية ستزداد بهدف تغيير المعادلة العسكرية. لكن واقع اليوم هو أن لا مجال لإيقاف هذه الحرب، ولا مجال لأي من الطرفين لحسمها بانتصارٍ له وهزيمة الآخر.
التحالف الروسي – الإيراني لن يتراجع لا داخل الحرب الأوكرانية والمعركة المصيرية مع حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ولا في الساحة الإقليمية والساحة الداخلية الإيرانية.
كل الأنظار متوجِّهة في الأشهر القليلة المقبلة الى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإلى مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي، وإلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فهؤلاء الرجال يمسكون بزمام المفاجأة.
النهار العربي
Be the first to write a comment.