أخاف من جاري الجديد، من زجاج سيارته الداكن، من اسمه الذي يدل على مذهبه ومنبته، من لحيته المشذّبة. لماذا أتى إلى هنا، إلى حيّنا “الآمن” في هذا الوقت العصيب، حيث تمتلئ السماء بتلك الطائرات الصغيرة الخفية ذات الطنين المتواصل، مطاردة أولئك الذين يشبهون جاري الجديد.

بكل تهذيب ولباقة، رحب به السكان، عبر مجموعة الواتساب الخاصة بالبناية، لكنهم فيما بينهم راحوا يتحرّون عنه: من أين هو؟ هل استأجر الشقة قبل اندلاع الحرب أم بسببها؟ هل زوجته محجبة؟ لماذا اختار السكن في حيّ مسيحي؟ ما هو عمله؟ لماذا زجاج سيارته داكن؟ وطبعاً، السؤال الأهم: هل هو حزبي؟ وتحديداً، هل له أي صلة بحزب الله؟
الجواب على السؤال الأخير، سيكون حاسماً. إنها بالنسبة للسكان مسألة حياة أو الموت.

وفق ما أعرف، ليس للسكان موقف سياسي واحد أو متماسك تجاه حزب الله. هم بالأغلب معارضون له بدرجات متفاوتة، ولم يبدر عنهم يوماً نعرة طائفية تجاه الشيعة، وإن كانوا ممتعضين دوماً من “الشيعية السياسية” ومظاهرها في المناطق القريبة.

حين استضفت أقاربي النازحين لبضعة أيام، كان “واجبي” أن أبلغ السكان عنهم، وعن صفتهم، وأطمئنهم أيضاً أن لا صلة لأقاربي بأي حزب. فالخوف العمومي من هؤلاء الآتين من جنوب لبنان ومن الضاحية الجنوبية لبيروت، مردّه أنهم “البيئة الحاضنة” أو “بيئة المقاومة”.

وتلك البيئة اليوم، هدف للغارات والقتل والاغتيالات. هدف الحرب التدميرية. ويشعر من ليس من تلك البيئة، جغرافياً واجتماعياً وسياسياً، أن لاصلة له بتلك الحرب. وهو بمنأى عنها وعن أخطارها طالما أنه بعيد بالسكن والتنقل والصلات الاجتماعية عن “شعب” حزب الله. وأبعد من ذلك، الشطر الأكبر من اللبنانيين كانوا يعارضون أصلاً تورّط لبنان بالحرب، ويظنون أن موقفهم هذا يعفيهم من تبعاتها، وأن إسرائيل ستعفيهم من “الاستهداف”.

وإذ يشاطرهم النازحون هذا الشعور، أي أن جغرافيات الطوائف الأخرى آمنة نسبياً، فهم يتوجهون إليها، محتمين بها. وفي الوقت الذي تسود فيه سلوكيات التعاطف والتعاضد والمساعدة (وليس فقط بالمشاعر)، تسود أيضاً سلوكيات الحذر الشديد والخوف من وجود أعضاء من حزب الله فيما بينهم. فالأخيرون هم بالأحرى “مغنطيس” للصواريخ، وأهداف مكشوفة لعيون تلك المسيّرات التي لا تغادر السماء.

بل إن النازحين أنفسهم، يحاولون الابتعاد عن كل ما له علاقة بالحزب، ولو كان ابن عم أو صديق عمر، فلا يجاورونه ولا يشاطرونه السكن ويتحاشون بالطبع البقاء في أي مكان قد يأوي أحداً من الحزب.

بمعنى ما، تنجح إسرائيل على المستوى الاجتماعي في عزل حزب الله. وإذا استمرت الحرب طويلاً، وفق ما هو مرجّح، فسيتفاقم هذا العزل على نحو بالغ الأذى، خصوصاً وأن الحزب يخوض حرباً تفتقد الحد الأدنى من التأييد اللبناني، وقلة حماسة القسم الأكبر من المجتمع الشيعي نفسه. علاوة عن افتقاد الحزب هذه المرة القدرات الكبيرة التي كان يحوزها في الإغاثة والإيواء والدعم المالي النقدي وتنظيم عمليات النزوح والإقامة والرعاية. فالعمل العلني لأجهزته حتى على المستوى الاجتماعي والاقتصادي بات عسيراً جداً.

ما تنتهجه إسرائيل، تجاه الجنوب والضاحية والبقاع الشمالي، سيتسبب في تمزيق البنى الاجتماعية والعمرانية والسياسية، التي كانت كفيلة بديمومة “العصبية”، التي هي الشرط الشارط لوجود “البيئة الحاضنة”. وطول مدة الحرب، معطوف على الضيق الاقتصادي الشديد، واهتراء الدولة، وضعف الموارد، لا بد أن ينعكس لاحقاً على تبرّم المجتمعات المضيفة إلى حد قد يوقظ نعرات شبيهة مثلاً، بما أصاب اللاجئين السوريين. وهذا خطر مؤجل، نأمل تفاديه، بخطاب سياسي منتظر، يقدم أملاً للبنانيين “للعيش معاً”.

عزل الحزب، وتشريد الحواضن، وتدمير النسيج العمراني، سيطرح تساؤلات كبرى حول مستقبل الضاحية الجنوبية مثلاً، إن كانت ستعود إلى صورتها -جسماً ودوراً وحياة- وإلى هويتها وثقافتها. فضاحية حسن نصرالله (إن جاز التعبير) يجري اغتيالها وهدمها، كجزء لا يتجزأ من الهدف الإسرائيلي بـ”اجتثاث حزب الله”. ومن المستبعد راهناً، إمكانية تكرار ما حدث بعد حرب 2006، حين أُعيد بناء الضاحية وفق الهندسة التي أرادها الحزب.

لبنان نفسه، بجغرافياته السكانية، الطائفية أو الطبقية، بعمرانه وحواضره، وتقسيماته السياسية والثقافية، هو اليوم واقع في “خلّاط” عنيف، سيهرس مكوناته، على نحو أفدح بكثير مما أفرزته الحروب السابقة ديموغرافياً وسياسياً وثقافياً. خلّاط سيحطم على نحو فظيع الهيكل اللبناني برمته.
اليوم التالي للحرب هو أيضاً مفزع جداً.

المدن