قدمت روسيا في اليومين الماضيين، عرضاً مدهشاً لواحد من أهم انتاجاتها السينمائية الضخمة، في فئة أفلام الكوميديا السوداء، التي لطالما برعت في تصويرها وتسويقها في ظل رئيسها الحالي فلاديمير بوتين، رائد تلك الموجة من الاعمال الفنية، الذي لا ينفك يحبس انفاس العالم وأعصابه، أمام مشاهد مؤثرة تخلط بين الواقع والخيال، بطريقة لم يعهدها جمهور الشاشات الملونة من قبل.
روسيا وحدها يمكن ان تُنتج مثل هذا الفيلم الساخر، الذي بدا، بعد انتهاء عرضه الاول مساء السبت، وكأنه فتحٌ جديد في عالم السينما العصرية، عندما قدم بواقعية شديدة قصة تمرد مسلح تنفذه مليشيا من المرتزقة تعمل رسمياً لحساب الدولة، وبالتحديد لحساب رئيس الدولة نفسه، يدوم التمرد أقل من 24 ساعة، لينتهي بانتصار الرئيس على صديقه السابق زعيم المليشيا الذي يخرج الى المنفى ويضع مقاتليه في عهدة الجيش، وسط لقطات مؤثرة لمشاهد العناق والوداع بين المرتزقة وبين الجنود ، والتي شاركت فيها فتيات جميلات في شوارع المدينة نفسها التي كان يمكن ان تغرق بدماء الجانبين…
ميزة هذا العمل السينمائي الروسي الفريد من نوعه أن أدوار البطولة أُسندت الى الابطال الحقيقيين للقصة، الرئيس يطل من قصره حيث يدير المواجهة ويخاطب الشعب ليذكّره بواقعة تاريخية من خارج السياق، مضى عليها 106 سنوات.. قائد مليشيا “فاغنر” يعلن الزحف الى العاصمة موسكو، والى المفر الرئاسي في الكرملين، ويتوعد بشنق وزير الدفاع وكبار ضباط الجيش، قبل ان يتلقى اتصالا من الخارج ، من رئيس صديق لا يقل غرابة وفكاهة، فيوقف الزحف الى العاصمة ويتم إلقاء السلاح..وتكون خاتمة الفيلم بتقديم عِبرة، ورسالة، ما زال النقاد يحاولون تفكيك رموزها: ما الذي جرى فعلا؟ هل انتصر الرئيس فعلا؟ هل انتهى قائد المرتزقة حقاً؟ ما الذي حققه هذا العمل السينمائي لروسيا عندما اطلق للمرة الاولى فكرة الحرب الاهلية الروسية، او على الاقل، سخِر من فكرة الدولة المركزية القوية التي لطالما كانت عنوان روسيا وحجة وجودها؟ أم أن الامر كله كان مجرد مزاح مصوّر بين الرئيس المزاجي وبين طباخه السابق، أو ربما كان مجرد تسجيل سينمائي لخلاف بينهما على طريقة تحضير وجبة عشاء، استخدمت فيه الوجوه والاسماء والطائرات والدبابات والمدافع الفعلية، واستدعي الاعلام العالمي لتغطية وقائع تصوير مشاهده الحقيقية، التي لا يمكن خنقها في صالات السينما؟
لا جدال في ان هذا العمل السينمائي الروسي الذي شوهد في مختلف انحاء العالم حقق نجاحا منقطع النظير، يتخطى أي عمل هوليودي او بوليودي مشابه . والمؤكد ان السينما الاميركية ستظل عاجزة عن منافسة ما قدمه الروس او حتى مجاراته، وكذلك الامر بالنسبة الى السينما الهندية.. مع أن الاميركيين تحديداً انتجوا عدداً من الافلام المهمة فعلا عن ميليشيات اميركية مشابهة للمليشيا الروسية، لاسيما مليشيا “بلاك ووتر” السيئة الصيت التي ارتكبت مجازر مروعة في افغانستان والعراق واليمن.. تعادل ان لم تكن تفوق ما ارتكبته مليشيا “فاغنر”.
أنجزت روسيا بهذا الفيلم المتمرد على تقاليد وتجارب السينما العالمية، ما لا يصدق.. ولو كان ذلك الانتاج جاء على حساب سمعتها وتاريخها وتراثها، واعاد التذكير بأنها تسلم أمرها، وبغالبية شعبية ساحقة، لرئيس لا يليق بها، ولا يتمتع من صفات الرئاسة وثقافتها بغير جنون العظمة، (وهو جنون ما زال يغوي أغلب الروس كما يبدو فعلا).. رئيسٍ محاطٍ بشلة من ضباط الاستخبارات وضباط الجيش الفاشلين، الذي سمحوا جميعا للص حقيقي وسجين سابق وطباخ مخادع، ان يتسلل الى أروقة السلطة، ليؤدي أدوارها ومهماتها الأشد قذارة، قبل ان يعرّي الدولة الروسية ويشكك في أسباب وجودها.
هل سيدخل “تمرد فاغنر ” تاريخ السينما الروسية، والعالمية، كواحد من الاعمال الخالدة؟ الأرجح انه ما زال لدى المقيم في قصر الكرملين المزيد من المفاجآت “الفنية”، التي يمكن أن تخطف أنفاس العالم.
موقع المدن
Be the first to write a comment.