تخون الأوطان الناس أكثر مما يخون الناس أوطانهم. لكن الرائج بين الناس هو العكس. وهذا لأن ما يروج هو قول أصحاب السلطة الذين يحتكرون تعريف الأوطان والوطنية، ويستخدمونه لسلب محكوميهم الصوت والقدرة على الاعتراض.

وقع في جميع البلدان أن تعاون أفراد أو مجموعات منها مع محتلين أجانب أو قوى معادية. كان بين الفرنسيين متعاونون مع النازيين أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا 1940-1944، منهم أحد أبطال الحرب العالمية الأولى، الماريشال بيتان. وكان بين اليهود عملاء للنازيين كذلك، عمل بعضهم أدلاء للأجهزة الهتلرية يكشفون المختبئين من جماعتهم. وتعاون جزائريون مع الاحتلال الفرنسي، ومن يسمون بالحرْكيين هم متعاونون جزائريون خرجوا مع الفرنسيين عند استقلال الجزائر. وبين الفلسطينيين متعاونون مع الاحتلال الإسرائيلي خوفاً أو طمعاً وفساداً. الواقعة أشيع من أن تخص بلداناً بعينها. وهي متأصلة في علاقات قوة بالغة التفاوت بين البلدان والشعوب، بحيث يندر أن يكون ثمة «خونة» من البلد المسيطر: كأن يكون هناك ألماني عميل لفرنسا أيام احتلال النازيين لها، أو فرنسي عميل لجبهة التحرر الجزائرية، أو إسرائيلي متعاون سراً مع مقاومين فلسطينيين. من قد يدعمون الكفاح الفلسطيني من الإسرائيليين أو الثورة الجزائرية من الفرنسيين قبل نحو سبعة عقود أو المقاومة الفرنسية من الألمان تحركهم اعتبارات أخلاقية قوية، تتفوق على شعورهم بالانتماء إلى قوم مسيطر. مع ذلك يوصف حتى هؤلاء بالخيانة من قبل المتشددين القوميين. أمثال توماس مان من الألمان وجان بول سارتر من الفرنسيين وآفي شلايم وإيلان بابيه من الإسرائيليين هم خونة في عين القوميين من بني قومهم.

لكن خيانة الأوطان لشعوبها أو قطاعات واسعة منها أشيع، ونصيبنا منها في المجال العربي كبير جداً، حيث تبدو أنظمة الحكم مختصة في تنكيد عيش محكوميها وإذلالهم، وإن غالبا مع رفع راية الوطنية. يرفع الوطن كتجريد فوق رؤوس الناس لوضعهم في موقع المقصرين أو المتهمين، وهذا بالضبط مثلما يفعل رجال الدين عبر اتهام الناس بالتقصير أو حتى الكفر. فكرة أن الدين كافر بكرامة الناس والمساواة بينهم تبدو غريبة في سياقاتنا الثقافية والسياسية بقدر غرابة فكرة خيانة الوطن للشعب. ولكن ماذا يسمى إذن سوء تعذيب المحكومين وسرقة ممتلكاتهم واغتصاب نساء منهم (ورجال وأطفال) ورميهم بأسلحة الدمار الشامل وتدمير بيئاتهم الاجتماعية وتهجيرهم؟ في ترسانة «سوريا الأسد» والتسمية كافية كي يشعر غير الموالين للنظام بالأجنبية في وطنهم، يسوغ الأمر بأن هؤلاء إرهابيون.

وكان بشار الأسد شخصياً قد تكلم في أواخر نيسان 2014 على حاضنة شعبية بالملايين لعشرات ألوف الإرهابيين السوريين. الإرهاب هو التهمة المبيحة للدم في «سوريا الأسد» وفي النظام الدولي الحالي. وهو لا يقع في عالم دلالات وقوانين مباين لعالم الخيانة الوطنية المبيح للدم وفق منطق الوطنيات كلها (أو لعالم الكفر المبيح للدم وفق منطق الإسلامية). يلزم أن نتذكر أن حالة الطوارئ ظلت قائمة في سوريا لثمانية وأربعين عاماً بين الانقلاب البعثي الأول الذي صادفت ذكراه الستين يوم البارحة، قبل أن تحل محلها قوانين مكافحة الإرهاب. حالة الاستثناء المُعمِّرة هذه سوغت نفسها بالحرب ضد العدو القومي، قبل أن تأخذ بتسويغ نفسها بعد الثورة السورية بالحرب ضد الإرهاب. الحرب وحدها ثابتة ومستمرة، والستون عاماً المنقضية هي حرب أهلية سورية طويلة، تتراوح بين فاترة وساخنة جداً.

الثابت المستمر الآخر هو «سوريا الأسد» التي تسعى وراء الأبد ولو بحرق البلد، أو بأن تصير سوريا أرض اللاأحد، حسب الشعارات الأسدية المعلومة. والإرهابي اليوم، وهو كل من نشط في الثورة بصور مختلفة، ولو أنشطة إغاثية، هو نفسه الخائن في زمن ما قبل الثورة. كان على المعتقلين السياسيين في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته أن يثبتوا وطنيتهم أمام أجهزة مخابرات مختصة بالقتل والتعذيب، أي أن يتحولوا إلى وشاة ومخبرين (خونة بالمعنى الحرفي للكلمة) على مواطنيهم كي يمكن أن يُفرج عنهم. يقع عليك أن تخون مواطنيك كي تكون وفياً لوطنك. عبرة هذه الواقعة تتجاوز حقيقة أن «الوطن» يخون الناس إلى أن هذا الوطن مدرسة للخيانة، لإنتاج الخونة الذين إذ يشون بأصدقائهم ومعارفهم يطورون ضميراً مؤهلاً ليخون كل شيء وكل أحد. مدرسو الخيانة هؤلاء من ضباط المخابرات هم خونة الوطن الحقيقيون. وأولهم سيدهم.

وهذا ما عرفه الثائرون السوريون جيداً وكثفوه في أهم شعارين للثورة: اللي بيقتل شعبو خاين! وسوريا لينا وما هي لبيت الأسد! الشعار الأول يقلب بصورة صحية و«وطنية» العلاقة بين الثائرين على النظام والنظام الذي يقتلهم. الخائن هو من يقتل الشعب، وليس من يعترض على القاتل. الفكرة بسيطة وثورية جداً. الخيانة هي بالضبط القتل، والوطنية المعافاة هي بالضبط الثورة على النظام القاتل، من أجل وطن لا يقتل الناس فيه. الشعار الثاني هو رفض لـ«سوريا الأسد» التي ليست وطناً لغير الموالين للنظام وبدرجة تتناسب مع ولائهم، بينما يجد أنفسهم غرباء غير الموالين، يعاملون كأعداء إن كانوا معارضين. القول إن «سوريا لينا» نحن السوريون، يعني تعريف سوريا بشعبها، وليس بنظام عائلي جانح. الشعار يذهب مباشرة إلى لب المشكلة السياسية السورية: خصخصة البلد لمصلحة «بيت» معين، بعيداً عن رطانات تتكلم على استبداد وفساد أو على دكتاتورية وقمع، فلا تقول في النهاية كلاماً واضحاً لا في الوطنية ولا الخيانة، لا في القتل ولا في ملكية البلد.

ربما يقال: لماذا يجري الكلام هنا على خيانة الوطن للناس، بينما من يخون، أو يقتل ويستأثر بالبلد، هو نظام حكم، عائلة، «بيت»؟ هذا لأن الوطن لا يوجد خارج الهياكل والأجهزة والبنى السياسية والقانونية التي يعيش في ظلها المحكومون، وبخاصة في بلد مثل سوريا ينحدر تعريف الوطنية فيه من حزب البعث الذي استولى عسكريوه على الحكم قبل 60 عاماً، ويحكمه النظام نفسه منذ 53 عاماً، يحتكر خلالها أجهزة المعلومات والتعليم، وبقدر كبير المعرفة. فإذا أخذنا بالاعتبار أن 4٪ فقط من السوريين هم فوق الستين، ظهر أن جميعنا تقريباً لم نعرف وطناً غير هذا البلد المصادر أسدياً الذي ثابر على خيانتنا طوال حياتنا. وهو ما ينطبق حتى على أكثر الموالين، بل لعله ينطبق عليهم أكثر من غيرهم بالنظر إلى أن ولاءهم كوفئ بعيش بائس وأفق مسدود، وفوق ذلك حرمان تام من المعنى الكريم لمعاناتهم.

إلى ذلك فإن رفع الوطن فوق رؤوس الناس ووضعهم في موضع المقصرين، بل المتهمين بالخيانة، هو معرفة مرتبطة بهياكل سلطة أقصتهم من شأنهم المشترك إقصاء منظومياً دائماً، وعذبت وقتلت أعداداً لا تحصى منهم. لا تصلح هذه المعرفة لبنى سلطة مغايرة، يطور الناس حساً بالأمان حيالها وبالانتماء لها. وهذه نقطة أساسية من أجل موقف سياسي وأخلاقي متسق من الحكم الأسدي. فلا يمكن التسليم بالمعرفة الأسدية، ثم الزعم بالتطلع إلى بنى سلطة غير أسدية. هذه المعرفة أنانية مثل هذه السلطة، مفصلة على قياسها ومنتجة من قبلها، وبوظيفة ضمان أمنها. سلطة مغايرة تعني حتماً معرفة مغايرة. معرفة تقول: اللي بيقتل شعبو خاين، يكون من كاين! تقول كذلك: سوريا لينا وما هي لبيت الأسد!

القدس العربي