حين يشهد شاهد من أهلها، أي دولة الاحتلال الإسرائيلي، في عقر دارها، ومهنته تدريس التاريخ في جامعاتها، واختصاصه عهود النازية وسجلات الإبادة الجماعية خصوصاً؛ فالأمر يتجاوز قرع أجراس الإنذار في أسماع المستوطنين الإسرائيليين الهمج الذين استعادوا ذاكرة «ليلة البلور» ضدّ يهود ألمانيا سنة 1938، ولكن في بلدة حوارة الفلسطينية سنة 2023. ثمة أجراس يقرعها دانييل بلاتمان، أستاذ التاريخ في الجامعة العبرية والمؤرّخ صاحب كتاب «موت المسيرات: النازية والطور الأخير للإبادة الجماعية»، خصيصاً للمؤسسات التي تبقت من «الصهيونية الأمّ»؛ على هيئة جثث هامدة تارة، أو هياكل أمنية وعسكرية ودينية تارة أخرى.

ومنذ سنة 2017، في مقالة مشهودة نشرها بالعبرية أوّلاً، اعتبر بلاتمان أنّ دولة الاحتلال تنحدر تباعاً، وبانتظام، إلى حال سياسية وحكومية تتيح تشويه كامل النظام القضائي لصالح شخص واحد في رأس السلطة، هو بنيامين نتنياهو؛ على الضدّ من «الاستقرار الديمقراطي» و«النظام الديمقراطي». ولم يتردد، يومذاك، في التحذير من شعبوية طاغية بات نتنياهو يشيعها، كما يتمتع بها شخصياً، ليست بعيدة عن أنماط الشعبويات التي استولدت الفلسفات النازية والفاشية؛ ولم يجد حرجاً، أيضاً، في الحديث عن ظواهر عبادة الفرد في قلب المجتمع الإسرائيلي، مشدداً على أمثال دافيد بن غوريون ومناحيم بيغن وأرييل شارون ممّن سبقوا نتنياهو في حيازة مواقع شعبوية فوق – قانونية.

وقبل أيام عاد بلاتمان مجدداً إلى أطروحاته تلك، خلال حوار مع الصحافي الفرنسي المخضرم رونيه باكمان نشره موقع «ميديابارت» الإخباري الفرنسي؛ وشدّد على يقينه بأنّ الوضع السياسي الراهن الذي تعيشه دولة الاحتلال يذكّره بألمانيا النازية سنة 1933، ليس من زوايا إيديولوجية، بل اتكاءً على مظاهر السيرورة السياسية وعناصرها. ولا يتورّع، المؤرّخ هنا وفي نهاية المطاف، عن استرجاع ما جرى من «ثورة» أعقبت وصول أدولف هتلر إلى السلطة في كانون الثاني (يناير) تلك السنة، واقترنت بإحراق الرايخستاغ، وإقرار البرلمان سلسلة قوانين بدّلت منظومة الحكومة، وشلّت المعارضة. وخلال شهرين من تشكيل حكومة نتنياهو، أخذ التحالف الحاكم يسخّر الكنيست لأغراض تُساق تحت توصيف الإصلاحات، ولكنها في الواقع تمسّ طبيعة النظام ذاته؛ وتؤكد هذا التوجه حقيقة أنّ أمثال بتسلايل سموتريش وزير المالية وياريف ليفين وزير العدل، على رأس مجموعات سياسية تعتبرها دول مثل فرنسا وألمانيا أو أية دولة غربية بمثابة تنظيمات نيو- نازية.

وإلى جانب تأثير الاحتلال والمقاومة الفلسطينية في دفع التيارات اليمينية نحو مزيد من التشدد، يتوقف بلاتمان عند معطيات التجذّر الديني في قلب المجتمع الإسرائيلي، الذي يُعدّ اليوم الأكثر تديّناً على نطاق غالبية المجتمعات الأوروبية؛ الأمر الذي لا ينطوي بالضرورة على احترام كلّ كلمة في نصوص التوراة، بل يصبّ مباشرة في مسائل الانغلاق الديني والتعصب، وأن يكون المرء يهودياً أهمّ في ناظر الكثيرين من أن يكون إسرائيلياً، كما يستخلص بلاتمان. وهذا، استطراداً، يعني أنّ كيان الاحتلال لا يمكن أن يكون «دولة يهودية ديمقراطية»، في قناعة المؤرّخ مراقب حصيف للنُظم النازية والفاشية، فالديانة اليهودية هي القيمة المهيمنة على الهوية الإسرائيلية وليس الديمقراطية، وبالتالي فإحداهما تظلّ العليا الحاضرة ولا يكمن للاثنتين أن تتعايشا معاً.
وليست خاتمة الحوار أقلّ من قنبلة إنذار، بدل ناقوس الخطر، إذْ جواباً على سؤال باكمان إنْ كانت دولة الاحتلال قد مرّت بسياقات مماثلة سابقاً، يجيب بلاتمان بالنفي: «لقد عرفنا أياماً عصيبة وأزمات سياسية ونزاعات عسكرية مع جيراننا، لكنّ ما يهددنا اليوم هو خطر قاتل لم نواجهه من قبل ولم يخطر ببالنا أننا سنواجهه في أيّ يوم». المسار الفاشي، ثمّ ما يتجاهله بلاتمان من هرولة حثيثة نحو الأبارتيد، وليالي بلور مقبلة في أكثر من حوارة فلسطينية… لأنّ القادم أدهى، وأعظم نخراً في بنية الكيان.

القدس العربي