للمرّة الأولى في تاريخ الصراع بين حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي وحلفائه من جهة، وحزب «الشعب» الأتاتوركي/ العلماني وحلفائه في الجهة المقابلة، وبعد مخاض لم يكن يسيراً بل تعسّرت خلاله الولادةُ مراراً؛ نجحت قوى المعارضة التركية في الاتحاد ضمن صيغة «الطاولة السداسية» الشهيرة، وتوافقت على مرشح واحد مشترك هو كمال كليشدار أوغلو.

ويصحّ الافتراض، بأكثر من معنى واحد وعلى نطاقات تتجاوز السياسة المباشرة والسياقات الانتخابية الرئاسية والبرلمانية، أنّ هزيمة كليشدار أوغلو أمام رجب طيب أردوغان كانت أيضاً انتكاسة إيديولوجية، وربما اجتماعية وثقافية، لحصيلة التعاقدات التي جمعت أطراف الطاولة؛ حيث تعاقدت تيارات اشتراكية – ديمقراطية، وقومية إسلامية، وقومية أتاتوركية، وليبرالية محافظة، فضلاً عن استطالات مبطنة لـ»العدالة والتنمية» مثّلها اثنان من كبار مساعدي أردوغان سابقاً وتعكس خلائط من ليبرالية محافظة واقتصادية.

تلك كانت، وهكذا تظلّ حتى يكشف المستقبل عن تطورات معاكسة، بمثابة ذروة قصوى في ائتلاف إيديولوجي لم تكن قواسمه الكبرى تتجاوز إلحاق هزيمة بالرئيس التركي وإنهاء عقدين ونيف من حكم حزب «العدالة والتنمية» وحلفائه. ولقد اتضح سريعاً أنّ ما تبقى من ذلك المشترك أخذ ينحصر تدريجياً في شيطنة اللاجئين عموماً، والسوريين منهم بصفة خاصة؛ الأمر الذي توجّب أن يفضي إلى خطابات عنصرية بغيضة، يصعب أن تجمعها صلة بروحية الجمهورية أو الليبرالية، فكيف بالعلمانية والإسلاموية القومية و… الأتاتوركية، ذاتها وفي الجوهر.

وهكذا بات مشروعاً طرح السؤال الحاسم التالي: ما الذي تبقى، والحال هذه، من مبادئ أتاتورك التأسيسية الكبرى، التي ولدت قبل 100 سنة من عمر الجمهورية التركية وعُرفت باسم «السهام الستة»، ليس من دون غمزة ترسلها مفارقات التاريخ الساخرة إلى أطراف طاولة 2023… الستة؟

أين تقع أقوال كليشدار أوغلو العنصرية ضمن سهم الجمهورية (نظام مبنيّ على الأخلاق والأوصاف النبيلة)؛ وسهم القومية (عروق الشعب التركي واحدة من ديار بكر إلى إسطنبول ومقدونيا)، وسهم الشعبوية (للشعب حقّ وحرّية تحديد مصيره)؛ وسهم العلمانية (التي لا تعني فصل الدين عن الدولة فقط وإنما كذلك حرّية المواطن العامة والدينية وحرّية ممارسته لها)؛ وسهم الدولة (التي لا يجب أن تحلّ مكان المواطن كمبدأ)؛ وسهم الثورة (الهادفة إلى النهوض وتطوير شعب الجمهورية التركية والوصول بالمجتمع التركي إلى مجتمع حضاري ومعاصر بمختلف آراءه وأطيافه)؟

وإلى جانب انزلاق معظم أطراف المعارضة التركية إلى حصر الحرب ضدّ أردوغان في بند اللاجئين، لم تفلح المظاهر الشكلية الخادعة في إخفاء سلسلة التناقضات الداخلية التي عسّرت ولادة «الطاولة السداسية»، وأسهمت في ضعف أدائها وعجزها عن تقديم بديل إلى الشارع الشعبي التركي، أو حتى إلى أنصارها والمتعاطفين معها من باب هدف وحيد هو دحر أردوغان و»العدالة والتنمية». ولعلّ المثال الأوضح، الصارخ والمخجل في آن، هو حرص كليشدار أوغلو على خطب ودّ أكراد تركيا، وفي الآن ذاته التهرّب من إعلان أيّ صلة قربى مع حزب «الشعوب الديمقراطي» أبرز ممثليهم.

ثمة، إلى هذا كلّه، ذلك الافتراض الذي يقرّ بأنّ ذاكرة الشعب التركي ليست حسيرة إلى درجة نسيان تراث غلاة الجنرالات في الانقلاب على النظام الديمقراطي والجمهورية التركية. وليس ببعيد ذلك الزمن الذي منح الجنرالات، عبر صلاحيات مجلس الأمن القومي، اليد العليا في مسائل حساسة مثل تحديد المناهج التربوية للمدارس، وتنظيم أقنية التلفزة والإذاعة والإشراف عليها، ورفع الحصانة البرلمانية عن النوّاب الأكراد، وتحديد حجم ونطاق الساعات المخصصة لتدريس اللغة العربية كلغة ثانية في المدارس، و… اقتراح صياغات للتحالفات البرلمانية إثر كل انتخابات تشريعية!

الأرجح أنّ تلك الذاكرة، في كثير من عناصرها العسكرتارية الأوتوقراطية، صنعت قسطاً غير ضئيل من الفيصل الذي حسم بقاء أردوغان وحزبه في السلطة، وفي قلب مئوية الجمهورية التركية تالياً.

القدس العربي