مضى على سقوط نظام صدام وقيام النظام الحالي الذي وسم بالديمقراطي والتعددي والفدرالي، سبع سنوات… ولا يزال بركان العنف السياسي متواصلا، ولا تزال الاستحقاقات الانتخابية مناسبة لإضافة جثامين جديدة إلى قائمة ضحاياه التي لا تنتهي. ويكاد العراقيون، والعرب معهم، يسلمون بفكرة استمرار هذا العنف لأجل غير مسمى. ومما يعزز الاعتقاد بأنه لا توجد وصفة سحرية لوقف العنف الراهن في العراق، تصويره عنفا طائفيا فحسب. وعندما ينجم العنف عن الولاءات الخاصة والمتعددة للطوائف، التي هي أيضا مختلفة بل متنازعة ومتعددة، يبدو وكأنه خارج عن سيطرة الدولة والحكومة المركزية والمجتمع عبر من يمثله من تنظيمات سياسية واجتماعية.
فلا تدخل الشرطة والجيش بالقوة المسلحة، ولا تدخل قادة الأحزاب والكتل السياسية ورجال الدين باسم وحدة المسلمين ومصالحهم… كافيان لإلغاء حقيقة الانقسام الطائفي، وبالتالي لضبط مشاعر الكراهية أو التنافس أو العداء التي تنبع من الولاءات المتباينة عند أبناء الطوائف المختلفة.
أو هكذا يعتقد الكثيرون. ويرسخ هذا الاعتقاد عند العراقيين والعرب أن علاقات الطائفتين، السنة والشيعة، لم تكن على ما يرام خلال حكم النظام السابق الذي اتهم بممارسة التمييز الطائفي. وفي هذه الحالة يكاد يكون طبيعيا أن ينتشر العنف وتتعاقب المذابح والتفجيرات، تعبيرا عن الانتقام أو دفاعا عن المواقع، بانتظار أن تهدأ المشاعر وتمحى من الذاكرة صور القهر والظلم.
والواقع أنه ليس لهذه الأفكار أي قيمة في تفسير العنف المتفجر في العراق حالياً، على أرضية الإعداد للانتخابات التشريعية في السابع من مارس القادم. ففي جنوب إفريقيا خضعت الأغلبية السوداء (29 مليون نسمة) لحكم أقلية بيضاء لا يتجاوز عددها 4 ملايين نسمة، عبر نظام عنصري لا مثيل له في تاريخ التهميش والقهر والاحتقار والعزل. وواجه السود ممارسات لا إنسانية اضطرت الأمم المتحدة إلى فرض عقوبات على جنوب إفريقيا منذ عام 1962. وكان من المنتظر، وفقاً للمنطق الذي يبرر به البعض أزمة العراق الحالية، أن لا يوفر السود الذين تحولوا إلى أغلبية سياسية ساحقة بعد تفكيك النظام العنصري عام 1993، فرصة للانتقام من البيض واجتثاثهم وتهجيرهم، بل وإبادتهم أيضاً.
لكن ليس هذا ما حصل وإنما عكسه تماما. فقد تحولت جنوب إفريقيا إلى دولة ديمقراطية؛ تحترم التعددية وتكرس حرية الفرد وحقوقه بصرف النظر عن لونه وأصله وتاريخه السياسي. وهي الدولة الأغنى والأكثر تنمية بين دول إفريقيا حالياً، إذ تنتج نحو 40 في المئة من البضائع الصناعية، وحوالي 50 في المئة من المنتجات التعدينية، و20 في المئة من الإنتاج الزراعي… في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وبالتأكيد لم يكن السكان السود ملائكة خالين من مشاعر الكراهية والبغض والانتقام.
كما لم يكن البيض الذين أفقدهم تفكيك النظام العنصري امتيازاتهم التاريخية راضين بما حصل ومطمئنين لمصيرهم. وقد حدثت خلال مفاوضات الانتقال نحو نظام ديمقراطي يلغي التمييز، مواجهات وتظاهرات وعمليات عنف خطيرة، لكنها لم تصل إلى واحد بالألف مما حصل في عراق ما بعد صدام.
فوعي القيادة السياسية المنتصرة، ومانديلا بشكل خاص، قطع الطريق بسرعة على تفجر مشاعر العنف والكراهية والانتقام، حيث بادر قادة “المؤتمر الوطني الإفريقي” إلى فتح باب المصارحة والمصالحة، مما دفع كثيراً من البيض العنصريين إلى مراجعة أنفسهم والاعتراف بأخطائهم، ودفع السود إلى التركيز على المستقبل وتكريس المصالح العامة على إرضاء الغرائز ومشاعر الحقد والانتقام. وخلال أقل من سنتين مسحت جنوب إفريقيا تاريخا طويلا من العنصرية، وعبرت بنجاح نحو عصر جديد، حتى أن منديلا شعر أن بإمكانه الانسحاب من الرئاسة عام 1999 وترك الشعب يختار رئيسه الجديد. وأصل هذا النجاح الذي حول منديلا إلى رمز تاريخي لرجل السياسة الحكيم والقدير معا، هو أمر واحد عبر عنه حارسه في السجن “خريستو براند” عندما قال: “لم يحصر مانديلا همه بالسود ومعاناتهم، بل كانت مخاوف البيض نصب عينيه كذلك”.
كما أن نشاط لجنة الحقيقة والمصالحة التي فتحت باب التوبة لجميع الذين شاركوا في جرائم ضد الإنسانية لم يقتصر على البيض، بل استقبلت كذلك أشخاصا مارسوا عمليات عنف لا قانونية من معسكر السود المناهضين للعنصرية. وقد حرص مانديلا على أن لا يشعر البيض بأن سلطة الأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا الجديدة تعني تهميش البيض واستبعادهم من الحياة الوطنية.
لذلك، ورغم حصوله على الأكثرية (62,65 بالمئة) في أول انتخابات ديمقراطية، شكل منديلا في مايو 1994، حكومة وحدة وطنية ضمت 12 ممثلا عن حزب المؤتمر الوطني، وستة ممثلين للحزب الوطني العنصري، وثلاثة من حزب انكاثا للحرية. وعين مبيكي وفريديريك ديكليرك نائبين للرئيس، كما عين بوتا، الرئيس الأسبق للأبارتايد الذي عانى السود صنوف الويلات في عهده، وزيراً للداخلية. سياسة التسامح والمصالحة هذه جنبت جنوب إفريقيا حقبة الانتقام والعنف والتدمير الذاتي، وسمحت للجميع فيها بإعادة اكتشاف إنسانيتهم التي غيبتها المواجهة الطويلة.
وراجع أشخاص دافعوا عن النظام العنصري لعقود مواقفهم أمام الملأ، فاعتذر الرئيس السابق ديكليرك عما سببه من معاناة لملايين البشر جراء عمليات الترحيل القسري والسجن والإهانة والإذلال خلال عقود. أما أديان فلوك فقد غسل قدمي ضحية سياسته العنصرية “فرانك تشيكان”، بينما صرح ليون فيسيلز: “أنا الآن أكثر اقتناعا من أي وقت مضى بأن الفصل العنصري كان خطأ فادحا أشقى أرضنا. لم يستطع الجنوب إفريقيون الاستماع إلى ضحك وبكاء بعضهم البعض. وأنا آسف لأنني لم أحاول الاستماع لفترة طويلة”.
ليس العنف المستمر في العراق إذن، منذ انهيار الحكم البعثي، والذي يتجدد في كل انتخابات، بذريعة اجتثاث “البعث” أو غيرها، التعبير الطبيعي عن حقد الطوائف بعضها على البعض الآخر، ولا حتى عن عدم السيطرة عليها. بل هو الثمرة المرة لتلاعب النخبة الجديدة بمشاعر الانتقام والكراهية والحقد، وتغذيتها لكل ذلك سعياً للسيطرة على السلطة والثروة.
إنه عنف سياسي صرف، منظم ومرتب وخاضع للسيطرة تماماً من قبل زعماء لم يبلغوا مستوى الرؤية الوطنية ولا تحركهم كما هو واضح أي حوافز أخلاقية. قد يقال إن هذا التنازع ليس إلا انعكاساً للمواجهة الإيرانية الأميركية المتصاعدة في العراق، بموازاة ملف التخصيب النووي وإعادة الهيكلة الجيوسياسية للمنطقة. لكن بقدر ما يفسر شقاء العراق الطويل، فهو يؤكد ضحالة وعقم هذه النخب وافتقارها لروح السيادة والصدقية الوطنية.
مركز الاتحاد للأخبار
Be the first to write a comment.