عاش الروائي البريطاني إيان مكوين ست سنوات من طفولته في ليبيا حيث كان والده ضابطا في الجيش البريطاني. لا نعلم كيف ساهم هذا في اتجاهه في أعماله لابتكار حبكات العالم المظلم للنفس البشرية وكيفية استحضاره في أعماله قضايا العالم المعقدة، من حرب العراق إلى التغير المناخي والذكاء الاصطناعي.
في مقابلة حديثة له مع راديو «بي بي سي 4» يتذكر بقعة أخرى من «العالم المظلم» حين كان يقوم بزيارات إلى برلين عام 1989 ليقوم بأبحاث لرواية عن نهاية الحرب الباردة، حيث يقترح بطلها الذهاب إلى سور برلين، وفي تلك السنة نفسها انهار السور، فركب مكوين الطائرة بسرعة ليوثق شاهدا على أحد التغيرات الكبرى في التاريخ الحديث. يروي مكوين حادثة معبرة عن انخراطه في البحث لإعطاء مصداقية للرواية، فخلال شغله على رواية «السبت» التي صدرت عام 2005 تعمق كثيرا في دراسة جراحة الأعصاب، من خلال مرافقة أحد جراحي الأعصاب المعروفين، نيال كتشن، خلال عملياته على المرضى. ظن بعض طلبة الطب خلال وجوده في المشفى مرة أنه جراح فسألوه إن كان في إمكانه أن يشرح لهم ما يفعله كـ«طبيب جراح». فكّر مكوين بأنه إذا لم يستطع إقناعهم بمعلوماته فلن يستطيع كتابة رواية بطلها جراح دماغ، فبادر إلى الشرح: طبعا، تعالوا إلى الشاشة المضاءة، هل ترون هذه الصور الشعاعية التي لدينا 16 منها. نحن نلتقط وريدا دماغيا أوسط ونحن في وضعية حساسة، بحيث إننا مضطرون لاتخاذ طريق محدد تمت تجربته من قبل جراح أعصاب شهير. انتهت الحادثة دون أن يعرف الطلاب أنهم يتحدثون للروائي إيان ماكوين وليس لجراح الدماغ نيال كتشن!
لماذا نحن مخطئون حول العالم؟
توسعت أبحاث بعض كتاب الرواية المؤسسين إلى حد أن رواياتهم أصبحت موسوعية تقدم معرفة شاملة بثقافات أممهم، وهي روايات تمتاز بالطول والتعقيد وتتضمن معلومات موسعة (بعضها تخييلي) من فروع العلم والإنسانيات، مثل «الكوميديا الإلهية» لدانتي و«دون كيخوتي» لسرفانتس و«فاوست» لغوته و«موبي ديك» لهرمان ملفيل و«الحرب والسلام» لتولستوي و«عوليس» لجيمس جويس وثلاثية نجيب محفوظ.
لم تكتف إحدى الكاتبات الحديثات، خلال أبحاثها عن الحياة الحقيقية لعميلة سرية بريطانية، تم إرسالها خلف خطوط الجيش الألماني في المناطق الفرنسية المحتلة، بقراءة الكتب وزيارة الأماكن المتعلقة بالأشخاص والأحداث، بل إنها حين بدأت كتابة الفصل الذي تقفز فيه البطلة وحدها بالمظلة، وفي عتمة الليل قررت أن تتحدى رهاب الأماكن المرتفعة الذي تعاني منه، وأن تقفز فعلا من طائرة. الكاتبة هنا لم تجمع مصادرها فحسب، بل استخدمت الرواية كطريقة لمواجهة أكبر مخاوفها.
في مقدمة كتابه Factfulness (وهو ما يمكن ترجمته برؤية العالم على حقيقته) الذي يردفه بعنوان شارح: «أسباب أننا مخطئون حول العالم ـ ولماذا الظروف أحسن مما نظن» يتحدث هانز روسلينغ عن حبه الشديد للسيرك، لأنه مثال على إمكانية تحقيق ما يبدو مستحيلا. الطبيب السويدي المشارك في تأسيس Gapminder foundation، وأحد مؤسسي «أطباء بلا حدود» في السويد، والذي جمع بين الأكاديمية والعمل العام (درس في السويد والهند وعمل في موزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغيرها) والذي صنفته مجلة «فورين بوليسي» واحدا من 100 من قادة الفكر في العالم، كان مفتونا بفقرة ابتلاع السيف وكان يحلم في طفولته بالعمل في السيرك لكن أهله دفعوه لدراسة الطب. حين كان روسلينغ طالبا شرح مدرسه الجامعي في إحدى محاضراته كيفية عمل الحنجرة، وأنه يمكن ضغط عظم الخد لجعلها مستقيمة إذا علق فيها شيء، وليشرح الفكرة عرض صورة لشخص يبتلع سيفا. أعاد المشهد حلم الطفولة لروسلينغ، وقرر أن يصبح مبتلع سيوف! بعد محاولات صعبة عديدة باستخدام قصبة لصيد السمك توقف عن المحاولة، إلى أن التقى بالصدفة، بعد سنوات، بمريض يطلب علاجا وكان هو الشخص نفسه الذي عرض أستاذه في الجامعة صورة شعاعية له لتدريسها للطلاب.
الطبيب يلتقي بمبتلع السيوف!
شرح مبتلع السيوف للطبيب الشاب سبب فشله السابق: الحنجرة مسطحة ولذلك يمكنها فقط أن تمرر أداة مسطحة كالسيف. نشر روسلينغ طلبا في الصحيفة المحلية لسيف وتلقى حربة عسكرية تعود لعام 1809 وبالتدرب عليها أصبح الطبيب الناشئ قادرا على تنفيذ فقرة ابتلاع السيف، لكن الفكرة الرئيسية التي أراد روسلينغ استخدام تلك الموهبة الجديدة ستوجّه كل مسار حياته المدهشة وهي إثبات أن ما يبدو مستحيلا يمكن أن يكون ممكنا، وأن باستطاعته استعمال كل نشاطه اللاحق وإمكانياته العلمية والشخصية أن يُلهم الناس بأن يفكروا خارج ما يبدو بديهيا. قام روسلينغ باستعراض تلك الحركة المذهلة في نهاية محاضراته عن تطوّر العالم بأن يخلع ثوبه الطبي ليظهر بقميص أسود عليه شكل صاعقة ذهبي طالبا من الحضور الصمت التام، وعلى صوت طبل يقرع يقوم بإدخال الحربة العسكرية في حنجرته ويطلق ساعديه ويكون مفعول ذلك على الحضور جنونيا. مفيد، في هذا السياق، أن نقوم باستعراض سريع لأطروحة الكتاب كونها تفكك عمليا المفاهيم الخاطئة والسرديات المشوهة التي تعيق قدرتنا على فهم الحالة الحقيقية للعالم.
بالاعتماد على خبرته الواسعة في الصحة العالمية وتحليل البيانات، يناشد روسلينغ الناس لتبني رؤية عالمية قائمة على الحقائق، متجذرة في الفحص الدقيق للبيانات بدلاً من الافتراضات التي عفا عليها الزمن. لإثبات فكرته، يسلط روسلينغ الضوء على التقدم الهائل الذي حققته البشرية في مجالات مثل الحد من الفقر والصحة والتعليم والمساواة، متحديا مفاهيمنا المسبقة عن حالة العالم. من خلال استخدامه للحكايات والتفسيرات التي يسهل استنتاجها من المفاهيم الإحصائية، يكشف روسلينغ النقاب عن الغرائز العشر الدرامية التي تشوه تصورنا للواقع. هذه الغرائز، التي تتراوح بين «غريزة الفجوة» و»غريزة الخط المستقيم» والتي تكشف عن التحيزات اللاشعورية والفخاخ المعرفية التي تقودنا إلى الخطأ عند تفسير المعلومات.
سيحتاج كتاب روسلينغ المهم كثيرا مقالة خاصة به، لكنّ فكرته الكبرى، أن على الكاتب أن يكون قادرا على مواجهة ما يبدو مستحيلا في عقول البشر، وأن يخوض في سبيل ذلك معركته الخاصة لمعرفة العالم بشكل حقيقي لا يرتكز على الأساطير والكليشيهات والأفكار الجاهزة، وأن يقدّم رؤية جديدة تزيد معرفة البشر وتجعلهم أكثر إنسانية وفهما لأنفسهم وللعالم وللآخرين.
القدس العربي
Be the first to write a comment.