بدا الأمر وكأن شيئاً لم يكن، إذ في أيار من هذا العام، رحب الرؤساء والقادة العرب بعودة “الديكتاتور بشار الأسد” إلى حظيرة القمة العربية بعد طول عزلة، واستكملوا المشهد بقبلاتهم الأخوية وأحضانهم الدافئة التي وزعوها عليه، إلى جانب السجادة الحمراء مجازاً التي سار عليها، والتي استحالت إلى بنفسجية في هذه الحالة تعبيراً عن فخامة الضيف وعظم المناسبة.

وضعت سوريا على القائمة السوداء في عام 2011، عندما بدأ نظام الأسد بضرب المتظاهرين بالنار، على الرغم من أن المظاهرات كانت سلمية وقتئذ. وخلال السنوات التي تلت ذلك، حوّل جيش الأسد الذي وصله دعم كبير من حزب الله في بداية الأمر ثم من إيران وروسيا، المناطق السورية الثائرة إلى أكوام من الركام، كما قتلوا الآلاف من السوريين، فاضطر الملايين للهرب من بلدهم.

في قمة جدة، بدا الجميع كمن نسوا كل شيء، وكأن الأمر كان مجرد سوء تفاهم بسيط، فقد كان الدافع لإعادة سوريا للجامعة العربية ملائماً وهذا ما عبر عنه الأسد بقوله: “نقف معاً ضد تيارات الظلام” ثم أخذ يصور المجازر الجماعية التي ارتكبها في سبيل تمسكه بالسلطة وكأنها عمل نبيل.

قبلات للأسد
في تلك الأثناء، لم يتغير أي شيء في نظام الحكم الديكتاتوري السوري، والذي يتمتع بمؤسسات وهياكل تشبه في تركيبتها المافيا، وما تزال تلك الشبكات تغتني وتثرى على حساب اقتصاد البلد، كما ما تزال عمليات تهريب المخدرات إلى السعودية والأردن على وجه الخصوص، مستمرة على قدم وساق، أي أن كل ذلك ما يزال مستمراً على الرغم من الأمل الذي عقدته الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية بتراجع وتيرته وخفض تدفقه وذلك عندما رحبت بعودة دمشق إلى الجامعة.

بيد أن العائلة الحاكمة في سوريا تورطت بشكل كبير في صفقات تجارية مشبوهة، وقد انكشف ذلك مع قضية متنفذ سوري افتضح أمر نشاطاته على يد مجموعة من الصحفيين السوريين والأجانب الذين يعملون لصالح صحيفة دير شبيغل، إذ في مطلع آذار من هذا العام، أعلنت شركة الطير الحر للسياحة والسفر عبر موقعها الإلكتروني عن عودة الرحلات إلى أوروبا من سوريا، بعد عزلة امتدت لأكثر من عقد، إذ عرضت شركة Air Mediterranean للطيران التي يمكن الحجز فيها من خلال شركة الطائر الحر عن رحلات مباشرة من سوريا إلى أوروبا. فانطلقت أول رحلة من دوسيلدورف إلى دمشق مروراً بأثينا في 24 من حزيران الماضي، ومنذ ذلك الحين والشركة تقدم رحلة أسبوعياً بالمسار ذاته.

ورد في الموقع الإلكتروني لشركة الطير الحر عنوان مكتبين أحدهما في دبي والآخر في أثينا، بيد أن هذه الشركة مسجلة في المنطقة الحرة بدمشق، حيث يتم التكتم على أية معلومات تخص الشركة ومالكيها.

كان من الممكن لمدير شركة الطير الحر أن يبقى قيد الكتمان، لولا أنه أعلن عن نفسه عندما كتب اسمه: محمود عبد الله الدج، إذ يلعب هذا الرجل دوراً أساسياً في عمليات النقل من وإلى سوريا. وعلى صفحته عبر فيس بوك، يقدم الدج نفسه رئيساً لهذه الشركة وممثلاً لشركة أجنحة الشام للطيران، الخاضعة للعقوبات الأميركية وذلك لقيامها بنقل مقاتلين من ميليشيات وذخائر لصالح النظام السوري. ولكن يبدو أن هذا الرجل صنع لنفسه اسماً في قطاع نقل آخر أيضاً، ألا وهو قطاع تهريب المخدرات، إذ اكتشف المحققون بأنه متورط فيما لا يقل عن ثلاث عمليات تهريب لشحنات كبيرة من الكبتاغون التي وصلت إلى ليبيا، كما لديه ملف لدى منظمة مشروع الإبلاغ عن الجرائم المنظمة والفساد يعود لعام 2021.

في مطلع كانون الأول من عام 2018، اعترض خفر السواحل اليوناني سفينة نوكا جنوبي جزيرة كريت في البحر المتوسط، وكانت هذه السفينة تبحر بأقصى سرعة، ليتبين لاحقاً بأنها تحمل على متنها ستة أطنان من الحشيش و3.1 ملايين قرص كبتاغون، وأعلنت السلطات اليونانية بأن القيمة السوقية لتلك الحبوب تصل إلى نحو 100 مليون يورو. أبحرت سفينة نوكا من ميناء اللاذقية بسوريا متوجهة نحو بنغازي بليبيا، وقد اكتشفت تلك العملية الخطيرة نتيجة بحث وتحقيق مطول، إذ يخبرنا محققون أروبيون بأن السلطات في اليونان تلقت بلاغاً جاء فيه بأن وكالة مكافحة المخدرات الأميركية تراقب وبشكل مكثف عمليات تهريب الكبتاغون القادم من سوريا منذ سنين طويلة.

ضبط المخدرات في المياه الدولية
كما هي حال معظم عمليات التهريب، خُبئت حبوب الكبتاغون بعناية في حاويات فرشت بأرضيات مستعارة، وبحسب ما أورده مشروع الإبلاغ عن الجرائم المنظمة والفساد، فإن شركة الطير السورية، ومقرها في اللاذقية، هي من حجز لشحنة الحاويات، أما محمود الدج الذي يدير الشركة، ولعله مالكها، فيحمل الجنسيتين السورية والليبية، إذ إن صورته وتاريخ ميلاده في جواز سفره الليبي هو نفسه الموجود في السجلات السورية. وبعد بلاغ تقدمت به اليونان، فتش ضباط الجمارك في ليبيا مستودعات التخزين التي استأجرها الدج في بنغازي، وفيها عثروا على كميات كبيرة من الحشيش وحبوب الكبتاغون.

وبسبب تورطه في عملية تهريب المخدرات في سفينة نوكا، واكتشاف مزيد من المخدرات في مدينتي الخمس وطبرق الليبيتين، حكم على محمود الدج بالإعدام رمياً بالرصاص وصدر هذا الحكم غيابياً في محاكم الاستئناف ببنغازي وذلك في تموز من عام 2019.
ونشرت صحيفة العربي الجديد مقاطع من الحكم عبر موقعها الإلكتروني. وفي رده على دير شبيغل بخصوص الحكم الصادر بحقه، ذكر الدج بأن ذلك جزء من مؤامرة، وزعم بأن المتنفذين في ليبيا يحاولون ابتزازه وانتزاع قسم من أعماله التجارية هناك، وأضاف: “عندما رفضت هددوني، ولهذا فإن الحكم غير قانوني، وقد استؤنف، وأنا على يقين من قيام محاكمة عادلة قريباً”.

وبحسب ما أورد في تصريحه، فإن موظفيه تعرضوا لتعذيب وحشي، فاعترفوا بأمور وأشياء لم يفعلوها، وقد تعرض اسمه لحملة تشويه عبر إعلام مغرض بتحريض من جهات تنافسه، ولكن لم يتخذ أي إجراء قانوني بحق من كتبوا ونشروا مقالة عن هذا الموضوع في صحيفة العربي الجديد.

على الرغم من اكتشاف المخدرات والأدلة التي لا تدع مجالاً للشك والتي توصلت إليها التحقيقات في اليونان، يبدو الحكم الهمجي بالإعدام رمياً بالرصاص الصادر بحق المتهم في بنغازي غريباً، وذلك لأن هذه المدينة تخضع لحكم الحاكم بأمره خليفة حفتر الذي يسيطر على النصف الشمالي من ليبيا بعد الحرب التي قامت فيها. وما يزال حفتر يحتفظ بعلاقات ممتازة مع النظام السوري، ويعتقد المحققون الأوروبيون بأنه هو أيضاً قد تورط بعمليات تهريب للبشر والأسلحة والكبتاغون التي تنطلق من سوريا. أي بالمختصر يمكن القول بإن ليبيا هي آخر مكان يمكن أن يحكم بالإعدام على مهرب مخدرات سوري.

ولكن على أية حال، لا يبدو بأن السلطات في بنغازي قد عقدت العزم على تنفيذ الحكم، إذ عبر صفحة محمود الدج على فيس بوك، كتب هذا الرجل بأنه الوكيل الحصري لأجنحة الشام في ليبيا والتي يرى المسؤولون الأميركيون بأنها متورطة في عمليات نفذتها أجهزة أمنية سورية، وشملت نقل مرتزقة أجانب إلى سوريا وغسل أموال لصالح المخابرات العسكرية، إلا أن الدج لا ينكر بأنه وكيل لأجنحة الشام، بل ويضيف بأنه وكيل حصري ويكتب: “لأغراض تجارية فحسب” ويزعم بأنه لا صلة تربطه بالجنرال حفتر.

غير أن التجارة المربحة بإنتاج وتصدير الكبتاغون تدر مليارات اليوروهات كل عام، لدرجة أنها أصبحت تتفوق على الصادرات السورية الرسمية، وتتركز هذه التجارة بيد عائلة الديكتاتور الأسد، إذ خلال أولى المحاكمات التي أقيمت لإدانة المسؤولين عن عملية التهريب في محكمة إقليمية بإيسين الألمانية عام 2022، ظهر الدور المركزي الذي يلعبه ماهر الأسد شقيق بشار وقائد الفرقة الرابعة، وذلك من خلال إفادات الشهود والمكالمات الهاتفية التي جرى اعتراضها. وكما اتضح في تلك المحاكمة، فإن الفرقة الرابعة تسيطر على عمليات النقل من كل الموانئ السورية، وتجني الأموال عبر سماحها بتصدير المواد كما لديها معامل المخدرات الخاصة بها، أي أن القيادة في دمشق لا تقف بكل بساطة دون أن تفعل شيئاً، كما يقول جويل رايبورن المبعوث الأميركي الخاص لسوريا، بل إن النظام السوري وقيادته هو العصابة بحد ذاتها على حد تعبير المبعوث الأميركي، إذ من غير المرجح لمحمود الدج أن يتمكن من شحن كميات كبيرة من الكبتاغون إلى ليبيا دون علم القيادة في دمشق وموافقتها.

دبلوماسية رفيعة مع غويانا
لدى العائلة اليونانية التي تمتلك أغلب الأسهم في شركة Air Mediterranean علاقات تربطها بالنظام السوري، وقد تم لها ذلك من خلال منعطف غريب إلى حد ما. إذ ورد في قوائم الاجتماعات الأخيرة للمساهمين في الشركة اسم الشقيقين أندرياس وفادي إلياس حلاق اللذين يملكان 51% من أسهم شركة الطيران، في حين كان في استقبال والدهما جورج وزير الخارجية السوري فيصل المقداد وذلك عندما استقبل في سوريا كضيف على مستوى الدولة في حزيران 2021. وبحسب التقارير والأخبار التي نشرتها وكالة سانا السورية، فقد سافر جورج حلاق إلى دمشق مبعوثاً خاصاً لرئيس غويانا، تلك الدولة الصغيرة الواقعة في أميركا الجنوبية، وكما ورد في سانا أيضاً، فقد أكد الطرفان على مواصلة التعاون بين البلدين.

تقدم شركة Air Mediterranean نفسها لزبائنها الأجانب على أنها شركة خطوط أوروبية بعيدة كل البعد عن السياسة، وحتى خلال الفترة التي أعلنت فيها شركة الطير الحر عن رحلات مباشرة على متن طائرات تلك الشركة من دمشق إلى مدن أوروبية، لم تعلن شركة الطيران صراحة عن أي رحلة من دمشق إلى تلك المدن، وهذا ما أكده ناطق رسمي باسم مطار دوسيلدورف عندما قال: “تسافر طائرات Air Mediterranean إلى دوسيلدورف، ومن وإلى أثينا، أي أن اسم دمشق لم يرد على الإطلاق”.

في أيار الماضي، علق الأسد و”زبانيته” الأمل على نيل شيء أكبر من الكلام اللطيف من قبل الدول الملكية الثرية في الخليج، إذ كانت دمشق تتطلع للحصول على المليارات كمساعدات لتبدأ عملية إعادة إعمار سوريا التي أصبحت بلداً مدمراً وفقيراً، حتى ولو وصل ذلك لثلثي السوريين فقط بما أن النظام لم يعد تحت سيطرته سوى تلك النسبة من السوريين في المناطق الخاضعة لسيطرته.

بيد أن الجامعة العربية لم تكترث بأمر المساعدات التنموية، لأنها كانت تتطلع لتحسين مستوى الاستقرار عبر إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، وهذا بدوره سيدفع بالملايين من اللاجئين السوريين المقيمين في الأردن ولبنان وتركيا إلى العودة لبلدهم.

وإضافة لذلك، تمنت الدول العربية عبر قيامها بذلك أن تشجع نظام الأسد على وضع حد لعمليات تهريب الكبتاغون من سوريا، بما أن انتشار واستهلاك الكبتاغون قد تحول إلى مشكلة كبيرة في السعودية والأردن على وجه الخصوص. وحتى قبل انطلاق القمة، أعلنت الحكومة الأردنية عن مدى أهمية هذه القضية، إذ بعدما لعب الأردن دوراً أساسياً في إعادة سوريا إلى الجامعة، قصفت طائرات حربية أردنية بعد يوم واحد من عودة سوريا رسمياً للجامعة العربية، مزرعة تعود لأحد كبار مهربي المخدرات في الجنوب السوري، ما أدى إلى مقتله مع أسرته.
والآن، وبعد مرور أربعة أشهر على ذلك، تبين بأن كل شيء قد سار بعكس الأمنيات، إذ شجع الدعم السياسي الذي قدمته الجامعة العربية للأسد على مواصلته لحملته العسكرية التي تستهدف المناطق السورية التي تصدت لهجماته، فقد تعرضت محافظة إدلب الواقعة في الشمال السوري والتي تضم الملايين من السوريين النازحين، للقصف ستين مرة خلال الأيام الأولى من شهر أيلول الحالي. وفي شمال شرقي سوريا “حيث يسيطر الكرد”، قتل العشرات من السوريين في المعارك، أي أن سوريا ما تزال بعيدة كل البعد عن الاستقرار وعن العودة الطوعية للاجئين مقارنة بما كان عليه حالها خلال السنوات القليلة الماضية.

ما تزال سوريا تواصل انحدارها نحو هاوية الانهيار الاقتصادي، إذ قبل قمة جدة، وقف سعر صرف الليرة السورية في السوق السوداء عند حدود 7500 ليرة مقابل الدولار الواحد، ومنذ ذلك الحين، تهاوت الليرة لتصل إلى 14 ألفاً مقابل الدولار الواحد، ثم خرجت مظاهرات في مدينة السويداء بعدما قطع النظام الدعم عن الوقود في آب الماضي، والسويداء تعتبر معقل الطائفة الدرزية في سوريا، ولقد استطاعت أن تحافظ على استقلاليتها بدرجة كبيرة مقابل تقديم الولاء لنظام الأسد.

الغرق في مستنقع الفقر
في هذه الأثناء، ما تزال عمليات إنتاج الكبتاغون تسير على قدم وساق، إذ بحسب ما ذكره المحلل الأميركي تشارلز ليستر، فإن شحنات من المخدرات تصل قيمتها السوقية إلى مليار دولار أميركي قد صودرت خلال شهور الصيف الثلاثة في السعودية والأردن ودول أخرى في المنطقة، وبذلك تحول النظام في سوريا إلى عصابة مافيوية، بعدما أصبح يدور في حلقة مفرغة، إذ لتأمين ولاء من حوله، حول نظام الأسد اقتصاد بلده الذي يعاني من انكماش كبير إلى مجموعة شركات إجرامية، لا يمتلك أسهماً فيها إلا من يؤيدون الديكتاتور. ثم إن سوريا كانت وما تزال موطن الفساد، إلا أنها لم تعد تطبق أي قوانين على هذا الصعيد اليوم، وهذا ما جعل أصحاب الأعمال والمشاريع التجارية والمتنفذين في هذا المجال يرحلون عن البلد.

إن قرار الجامعة العربية القاضي بإعادة سوريا لم يغير الوضع على الإطلاق، بل على العكس، أصبح نظام الأسد اليوم يحس بقوة وتمكين دفعه لمواصلة الحرب وإفقار الشعب في المناطق الخاضعة لسيطرته، بما أن المرتبطين بالعائلة الحاكمة أو الموالين لها هم وحدهم من يسمح لهم بالمشاركة في اقتصاد البلد.

قد يظن المرء لوهلة بأن مظاهرات السويداء ستمتد لتصل إلى حمص وحلب ودمشق، إلا أن ذلك لم يحدث حتى الآن، ويشرح لنا أحد اللاجئين السوريين الوضع بقوله: “إن كل من يفكر بالتظاهر ضد الأسد في سوريا إما قد رحل منذ أمد بعيد، أو قتل، أو سجن، أو أن الخوف يمنعه من القيام بذلك”.