لا تزال الهدنة صعبة إن لم تكن مستحيلة، بعدما لاح لوهلة أنها ممكنة. والواضح أن تعقيدات كثيرة أدّت الى تعثّرها، أولها وأبرزها أن “وقف اطلاق النار” و”انهاء الحرب” عبارتان ممنوعتان حتى الآن في قاموسَي الحكومة الإسرائيلية، وبالتالي الإدارة الأميركية، قبل “تحقيق الأهداف” وفي طليعتها “القضاء على حماس”. وليس استمرار الحرب مناسباً فقط لائتلاف اليمين الاسرائيلي المتطرف كي يفرض أجندته التهجيرية على الشعب الفلسطيني، بل انه مؤاتٍ أيضاً لـ “محور الممانعة” الإيراني الذي يعارض انتهاء الصراع الحالي قبل الاعتراف به مالئاً الفراغ الاستراتيجي العربي، باعتباره لاعباً ومتلاعباً بتشعّبات الشأن الفلسطيني، واستطراداً دعوته الى أن يكون “شريكاً” في ترتيبات ما بعد الحرب.

قُتل ثلاثة جنود وأصيب العشرات من الأميركيين بطائرة مسيّرة إيرانية، لحظة كان مديرو الاستخبارات (الأميركي والمصري والقطري والإسرائيلي) مجتمعين في باريس لصوغ اتفاق إطار ينص على هدنة طويلة وتبادلٍ للأسرى والرهائن. عنى هذا التزامن أن طهران رفعت درجة التصعيد لأن الأطراف الأربعة تتجاهلها في رسم مسار لإنهاء الحرب، على مراحل. ثم ردّت الولايات المتحدة على قاعدتها في الأردن بضربات جراحية في العراق وسوريا، كما واصلت مع بريطانيا ضرب مواقع للحوثيين في اليمن، لكنها لم تملّ، قبل وبعد، من تكرار أنها “لا تريد حرباً” مع إيران التي بادلتها التحية بمثلها. ولم تحرص واشنطن على شيء مقدار حرصها على إنكار أي علاقة بين الحرب على غزّة وبين الهجمات على جنودها وعلى السفن في البحر الأحمر، فضلاً عن السعي الى الفصل بين تلك الحرب والمواجهة الدامية في جبهة جنوب لبنان- شمال إسرائيل. غير أن إيران وميليشياتها واظبت على المطالبة بـ “انهاء العدوان على غزّة” كي توقف هجماتها على إسرائيل والقواعد الأميركية.

مع الضربات الأميركية لميليشيات إيران زاد التوتر في المنطقة، وتولّت موسكو نقله الى مجلس الأمن ليس قلقاً على “الاستقرار” بل “تمريكاً” على واشنطن بأنها “توسّع نطاق الحرب” فيما تدّعي بذل الجهود لحصرها في غزّة. غير أن حصر الحرب في غزّة، مع اطلاق العنان للوحشية الإسرائيلية، أوقعا الإدارة الأميركية في أخطائها، وكذلك في الفخّين الإسرائيلي والإيراني، الى حدّ تعجيزها عن التحكّم بمجرى الأحداث، حتى أن ايتمار بن غفير لم يتردّد في إهانة جو بايدن. فبعد الضربات غير المجدية، و”المنسّقة” مع طهران وبغداد، أصبحت واشنطن نفسها (بسبب حملة إعادة انتخاب بايدن) أكثر حاجة الى “الهدنة” من أي طرف آخر، ولا تستطيع تحصيل موافقة عليها من “الحليف الإسرائيلي”، ولا من “حماس” والفصائل، ولا من إيران. كما أن الوساطتين المصرية والقطرية تعانيان من الارتباك الأميركي مقدار ما تواجهان مباشرةً، أكثر من سواهما، تداعيات الصراع الأميركي (والإسرائيلي)- الإيراني.

مرّة أخرى تراهن واشنطن على مجموعة “الاعتدال العربي” لكنها تخذلها، وعلى رغم ذلك تبقى مجموعة الاعتدال هذه “دولاً- لا أطراف” ولا بدائل أكثر فاعلية لديها من مجرد القيام بدور “الوساطة”، فيما تفرض إيران ميليشياتها كـ”أطراف- لا دول” في صراع يتعلّق أولاً وأخيراً بمستقبل المنطقة العربية ودولها. أما واشنطن فتواصل الضغط لـ “تجميل” الهدنة في غزّة بمزيد من “التطبيع” مع العرب علّها تصبح مقبولةً إسرائيلياً، لكن العجز الاميركي عن ترويض التطرّف الإسرائيلي، وعن مواجهة التطرّف الإيراني، يجرّد الاعتدال العربي من أي دور ليبقي المنطقة في حال صراع لا أفق له.

النهار العربي