في المنعطفاتِ التاريخيّةِ الكبرى، لا ينبغي أن يكون النشيدُ الوطنيُّ مجرّدَ نصٍّ خطابيٍّ خشبيٍّ مكرور، ولا مجرّدَ لحنٍ حماسيٍّ يُردَّد في المراسم؛ بل وثيقةً وجدانيّةً تُوحِّدُ الذّاكرةَ وتفتحُ أفقَ المستقبل.
في الحالةِ السوريّة، يأتي الاختيارُ على مفترقٍ خرج فيه الشعبُ من أطولِ الحقباتِ الاستبداديّة، وواجه تَكالُبَ قوى دوليّةٍ وعدوانًا خارجيًّا، ومِحَنَ التهجيرِ والاعتقالِ والتطهيرِ العِرقي، ثمّ الزلازلَ والكوارثَ الطبيعيّة. وبرغم ذلك نهض—متوكّلًا على الله ثمّ معتمدًا على نفسه—منتصبَ القامة، عزيزَ الجانب، ممتلئَ القلبِ هِمّةً وأملًا، مُنتزعًا دعمًا عربيًّا وإقليميًّا واسعًا لدولتِه الجديدة.
لذا ينبغي للنشيدِ المُرتجى أن يُجسِّد هذه الحقبةَ الملحميّة بما حفلتْ به من تضحياتٍ وصبرٍ وبطولة، وأن يصوغَها وعدًا عمليًّا بمستقبلٍ تُشيِّده دولةُ العدل ومجتمعُ الرحمة، ورسالةً للأجيالِ بالثباتِ على هذا الدرب.
لهذا، فإنّ اختيارَ نشيدٍ رسميٍّ جديدٍ لسورية يستلزم منهجًا واضحًا يجمع بين الرؤيةِ الثقافيّةِ والسياسيّة والدقّةِ الأدبيّةِ والموسيقية، إضافةً إلى العُمقِ المجتمعيّ والوجداني. يقدّم هذا المقالُ خلاصةَ إطارٍ عمليٍّ مُتكاملٍ للاختيار والاعتماد، مُستقاةً من دليلٍ فنّيٍّ شاملٍ أُعِدَّ خصيصًا لهذا الغرض ضمن مشروعٍ متكاملٍ لتطويرِ النشيدِ الوطنيّ السوري.
١) لماذا نحتاج نشيدًا جديدًا؟
تُظهر القراءةُ التاريخيّةُ لمسيرةِ الأناشيدِ في سورية أنّ النصوصَ السابقة—على ما فيها من قوّةِ سبكٍ وسهولةِ تركيب—اقترنت بخطابٍ مُوجَّهٍ لشريحةٍ عسكريّةٍ محدّدة وبحمولةٍ سياسيّةٍ تعود لحقبةٍ بعينِها، ما ضيّق مدى استقبالِها الجمعيّ وربطَها في ذاكرةِ الناس بصورةِ السُّلطة لا المجتمع. ومن هنا، ومع انطلاقِ مسارِ التجديدِ والبناء تبرز الحاجةُ إلى نصٍّ جامعٍ جديدٍ يُخاطبُ كلَّ السوريين، بوصفه «وثيقةً وجدانيّةً وفكريّةً وروحيّة» عابرةً للأجيال.
٢) وظيفةُ النشيدِ الوطنيّ وهويّةُ الأمّة والدولة
النشيدُ الوطنيّ هو المرآةُ الصوتيّةُ لهويّةِ الأمّة: يلمُّ شتاتَ الوجدان، يرسمُ ملامحَ الأرضِ وأحلامَ الناس، ويجدِّدُ وعدَ الانتماء للأجيالِ المُتتابعة. لذلك يجب أن يتجاوزَ كونه أغنيةً احتفاليّةً إلى رسالةٍ دائمةٍ تمسُّ قلبَ كلِّ مواطنٍ وتغرسُ معاني العزّةِ والوفاءِ والعملِ المشترك.
٣) «هندسة» النص: كيف نكتب نشيدًا صالحًا للاعتماد؟
لا توجدُ قواعدُ جامدةٌ عالميّةٌ لكتابةِ النشيد، لكنّ التجاربَ الراسخةَ تُسعفُنا بتوجيهاتٍ عامّة. ويُستحسن اعتمادُ مقاربةٍ «هندسيّة» في الصياغة: معايرةٌ دقيقةٌ لكلّ كلمة، واختبارٌ مُتكرّرٌ على ألحانٍ مُتنوّعة، والاستنارةُ بأهلِ العلمِ والخبرةِ ومجموعاتِ التركيز—بأسلوبٍ أقربَ إلى العملِ الهندسيّ منه إلى العفويّةِ الانطباعيّة. الهدف: مُنتَجٌ لغويّ/فكريّ/موسيقيّ موجزٌ لكنّه مُحكَمٌ وجذّاب، يُعبِّر عن الهويّةِ والتاريخِ والقيمِ والطموح.
معاييرُ ضبطِ الصياغة (قائمةٌ موجزة):
١) أن يتجاوزَ حدودَ المرحلةِ والجهةِ ليخاطبَ كلَّ السوريين عبر العقود المقبلة.
٢) أن ينطقَ بضميرِ الإنسانِ السوريّ (أي بصيغةِ المتكلّم لا المُخاطَب).
٣) لغةٌ فصيحةٌ مباشرة، سهلةُ الحفظِ والإنشادِ المدرسيّ والجماعيّ.
٤) موازنةٌ دقيقةٌ بين تراثِ الماضي وتحدّياتِ الحاضر وفرصِ المستقبل في سبكٍ وجيز.
٥) حضورٌ واضحٌ للهويّةِ الوطنيّةِ الخاصّة، بعيدًا عن عموميّاتٍ ركيكة.
٦) بُعدٌ روحي/وجدانيّ واجتماعيّ يُلصقُ النشيدَ بعمقِ مُنشِديه ويحثُّهم على البناء.
٧) لحنٌ سوريُّ الطابع: عذبٌ ورقيقٌ وحاسمٌ ومُشجِّع، وسهلٌ للحفظِ والإنشادِ الجماعيّ.
٨) أقصى درجاتِ الضبطِ اللغويّ والنحويّ والعَروضيّ والموسيقيّ ليستحقَّ التوارث.
٩) تعزيزُ التموضعِ الحضاريّ العالميّ لسورية بصورةٍ جليّة.
١٠) خاتمةٌ تحملُ دعوةً صريحةً للعملِ والتمكينِ جيلًا بعد جيل.
٤) متطلّباتٌ لغويّةٌ وعَروضيّةٌ وموسيقية
• اللغة: الالتزامُ بالصياغةِ الفصيحةِ المعياريّة—ومن تفاصيلِها الكتابيّة اعتمادُ صورة «سوريّة» بالتاء المربوطة وفق ما أقرّه مجمعُ اللغةِ العربيّة بدمشق ونصّت عليه ديباجةُ الدستور.
• الإيقاعُ العَروضي: الانضباطُ التامّ وتفضيلُ البحورِ الرشيقةِ الملائمةِ للإنشادِ الجماعيّ، لما تتميّزُ به من نبضٍ سريعٍ وحملٍ خفيفٍ للكلمات مع وضوحِ النبرِ وتوالي التفعيلات، وهو ما يُيسِّرُ الحفظَ والترديد.
• البناءُ الموسيقيّ والسّرعة: الأناشيدُ الرسميّةُ تميلُ إلى سرعةٍ أبطأ من الأناشيدِ الحماسيّة لإضفاء الوقارِ والجلال على الأداءِ الجماعيّ الرسميّ؛ وعليه تُضبَطُ سرعةُ اللحن بما يلائمُ الجموعَ والطقوسَ السياديّة.
ملاحظةٌ تطبيقيّة: يُستحسنُ اختبارُ النصّ على لحنٍ أو أكثر خلال الكتابة، لتتبادلَ الكلمةُ والنغمةُ الأثرَ نفسَه صعودًا وانغماسًا ثمّ صعودًا جديدًا، في مسارٍ ديناميّ يُعينُ على ثباتِ المعنى في الذاكرة.
٥) الرمزيّةُ والمعنى السياسيّ–المجتمعيّ
ينبغي أن يعكسَ النشيدُ رؤيتين مُتلازمتين: دولةٌ تُشيَّدُ على أساسِ العدل، ومجتمعٌ يقومُ على الرحمة؛ أي تحويلُ الدولةِ إلى مشروعٍ للخدمةِ العامّة، وتحويلُ المجتمعِ إلى واحةٍ آمنةٍ لجميعِ أبنائهِ وبناته. ويقتضي ذلك «طريقًا واضحًا» في الخطاب: تثبيتَ دربِ البناءِ والتمكينِ والحفاظِ على الهويةِ والمكانة.
٦) مقترَحٌ لآليّةِ الاختيارِ المؤسّسية
لا يكفي نصٌّ جيّدٌ ليُصبح نشيدًا رسميًّا؛ فلا بُدّ من مسارٍ مؤسّسيٍّ واضحٍ للتبنّي والتعميم:
• الاعتمادُ الرسميّ: اعتمادُ النشيدِ كنشيدٍ وطنيٍّ للدولةِ والشعب، جزءًا من الهويّةِ الجامعة ومُساهِمًا في توحيدِ البلاد نحو مستقبلٍ يعتزُّ به الجميع.
• الإدماجُ التربويّ والتمثيلُ البروتوكوليّ: إدراجُه في المناهجِ التعليميّة واستعمالُه في الفعالياتِ والمناسباتِ الرسميّة داخل الوطن وخارجَه.
• لجنةٌ حكوميّةٌ مشتركة: من الثقافةِ والتربيةِ والتعليمِ والخارجيّةِ والإعلام؛ لوضعِ برامجَ وطنيّةٍ للتعريفِ بالنشيد، وتأهيلِ الكوادرِ التعليميّةِ والثقافيّةِ على أدائه، ثمّ مراجعةِ ما قد يستلزمُ التطويرَ مستقبلًا.
• بنيةُ دعمٍ معرفيّةٌ وفنّية: إتاحةُ موادّ داعمة (شروحٌ، تدريباتٌ، نوتةٌ وتسجيلٌ معتمَد، وترجماتٌ إلى لغاتٍ عدّة) بما يضمنُ سرعةَ الانتشارِ وانضباطَ التلقّي.
٧) مقترحاتٌ لبروتوكولِ التحكيمِ والجدولة
• المرحلةُ الأولى – الاستكشافُ والمواءمة: تحديدُ المعايير (القائمة أعلاه) وتلقّي المقترحاتِ الأوّليّة، ثمّ غربلتُها على أساسِ القابليّةِ للإنشادِ الجماعيّ، والجدارةِ اللغويّة/العَروضيّة، ووضوحِ الرسالةِ الجامعة.
• المرحلةُ الثانية – الاختبارُ الفنّي: تجاربُ أداءٍ صفّيّةٌ وجماعيّة (مدارس/فرق شبابيّة) مع تسجيلاتٍ مرجعيّةٍ وملاحظاتِ خبراءَ لغةٍ وموسيقى، واختباراتُ سرعة/مقام لضمانِ الوقارِ والوضوح.
• المرحلةُ الثالثة – الاعتمادُ والتعميم: قرارُ اللجنة، يليه تدريبُ المعلّمين والفرقِ الموسيقيّة، وتوحيدُ النوتةِ والتسجيلِ الرسميّ، ثمّ إدراجُه في المناهجِ والطقوس.
٨) الخلاصة: من «رمزِ السّلطة» إلى «عقدٍ اجتماعيّ»
النشيدُ الذي نختارُه اليوم ميثاقٌ شعوريٌّ جامع، لا شعارٌ ظرفيّ؛ نصٌّ مُحكَمٌ يُنشده الطلّابُ بسهولة، وتحملُه الجموعُ في الملاعبِ والساحاتِ والبعثات، ويُعبّرُ بوضوحٍ عن عدلِ الدولةِ ورحمتِها، وعن طموحِ مجتمعٍ يعملُ معًا جيلًا بعد جيل. إنّها لحظةُ تحويلِ النشيدِ من رمزٍ ادّعته السّلطةُ يومًا إلى «عقدٍ اجتماعيّ» يكتبه الناسُ لأنفسِهم ويُنشِدونه معًا في طريقِ البناء.
د. فراس النّاشف
المشرف العام على مبادرة «تاجُ الْأُمَم»: نحو نشيد وطني جامع




Comments are closed for this post.