دخلت حرب روسيا على أوكرانيا شهرها الرابع، وما من مؤشرات سياسية أو ميدانية تفيد بقرب نهايتها. وبات من المؤكّد أن فلاديمير بوتين لم يكن في وارد حرب طويلة إلى هذا الحد وأنه أخطأ التقدير في ثلاثة أمور.
الأول، قدرة الأوكرانيين على المقاومة عسكرياً واستيعاب ضربات الأسبوع الأول التي دمّر فيها مطاراتهم وجزءاً أساسياً من بنية جيشهم التحتية، وحجم التعبئة العسكرية المنظمة التي نجحوا في توفيرها بما دلّ على عمق ولاء قومي أوكراني في مواجهة روسيا، استخفّ بوجوده.
الثاني، قصور قراءته لما ستكون عليه ردود الفعل الغربية، الأمريكية والأوروبية، التي ظنّ أنها ستقتصر على عقوبات اقتصادية تُضاف إلى العقوبات المفروضة منذ ضمّه شبه جزيرة القرم العام 2014. مردّ ذلك أن أكثر من حرب وعملية شنّها بوتين في السنوات الأخيرة لم تدفع واشنطن أو العواصم الأوروبية للردّ عليها بحزم (من جورجيا إلى أوكرانيا نفسها وصولاً إلى سوريا، إضافة إلى جرائم شركة فاغنر المقرّبة من الكرملين في ليبيا ومالي وغيرهما). ومرد ذلك إيضاً قناعة في موسكو بعدم رغبة الغرب منذ نهاية حروب أفغانستان والعراق في المواجهات العسكرية أو في تحمّل أعباء الحروب اقتصادياً بسبب خشية الحكومات في واشنطن وباريس ولندن وبرلين وروما وغيرها من الرأي العام ومن الانقسامات الواسعة فيه (التي يراهن فيها بوتين على اليمين المتطرّف والتيارات الفاشية الموالية له وعلى بعض تيارات اليسار المعادي لحلف شمال الأطلسي).
أدّى الأمر إلى تفاجُؤ موسكو بإرسال أمريكا كمّيات كبيرة من الأسلحة المتطوّرة لكييف ووضع موازنة ضخمة لدعمها (قاربت في آخر شهر أيار/مايو الـ54 مليار دولار). كما أدّى إلى تفاجُؤ بالدعم الأوروبي العسكري والاقتصادي للأوكرانيين من الدول الكبرى والمتوسطة (فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبولندا وهولندا وبلجيكا) ومن الدول المحايدة تاريخياً أو المحدودة الموازنات العسكرية (النمسا والسويد وفنلندا ودول البلطيق). فهذه جميعها اعتبرت عودة الحرب إلى القارة الأوروبية واجتياح الدول فيها تهديداً لأمنها وابتزازاً يمكن لموسكو أن تمارسه دورياً إن لم تُلجم آلتُها العسكرية.
الأمر الثالث، وهو على الأرجح الأكثر أذيّة لحسابات بوتين، اكتشافه رداءة أداء وحداته العسكرية وضعف الدعم اللوجستي للقوات المتقدّمة داخل أوكرانيا وقدرة الأسلحة الغربية الحديثة على الفتك بجنوده وضباطه ودبّاباته رغم سيطرة قوات جيشه الجوية على سماء مناطق العمليات. أدّى ذلك إلى سقوط عشرات الآلاف من عديد القوات الروسية بين قتيل وجريح وتدمير آلاف الآليات حتى الآن.
إنطلاقاً من هذه المعطيات، يمكن توقّع عدد من السيناريوهات للمرحلة المقبلة.
السيناريو الأول، استمرار الحرب على ما هي عليه، بحيث يكابر بوتين ويراهن هذه المرة على تراجع الدعم الغربي مع الوقت وبروز تناقضات في المواقف داخل أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة عشية الانتخابات التشريعية المقبلة هناك وبعدها، بما يخفّف خسائر قواته ويتيح لها المزيد من التقدم وقضم أراضٍ تتخطّى منطقة دونباس وساحل بحر آزوف المفضي إلى جزيرة القرم، إلى أن تستسلم كييف سياسياً له. ولعلّ تشبيهه نفسه قبل أيام بالقيصر بطرس الأكبر الذي خاض حروباً أوروبية طويلة ووسّع حدود روسيا يشي بتحضيره الروس لحرب لم يعد من طول أمدها مفرّ.
السيناريو الثاني، إعلانه بعد فترة وقف العمليات بعد «نجاح تدخّله» الذي كرّس «روسية» الشرق والجنوب الأوكرانيّين، ودمّر قسماً من مقوّمات الدولة الأوكرانية (التي سبق أن عدّ قيامها «خطأ تاريخياً ارتكبه لينين» بعد الثورة البولشفية) واقتصادها، بما يربك كييف وحلفاءها ويطرح عليهم سؤال القبول بالأمر الواقع والضمّ أو الاستمرار في القتال لتحرير المناطق المذكورة وما يعنيه هذا من تبعات وصعوبات سياسية وعسكرية.
أما السيناريو الثالث فهو سيناريو التصعيد الواسع في العمليات من الجانبين، بحيث يؤدّي وصول المزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا إلى تمكين قواتها من إنزال خسائر أكبر بالجيش الروسي وشنّ هجمات على مواقع تموضعه لمنعه من تكريس احتلاله لها، بما يدفع موسكو لإرسال تعزيزات إضافية واستخدام قوّة نارية أكبر ومواصلة عمليّاتها وتوسيع رقعة قصفها للأراضي الأوكرانية.
ولا تبدو الوساطات التركية ولا المحاولات الأممية قادرة حتى الآن على خلق سيناريو رابع، قوامه ديبلوماسي وبوسعه فرض وقف إطلاق نار. ففيما خلا معالجة قضية شحن القمح والحبوب من ميناء أوديسا عبر البحر الأسود نحو المتوسّط ونزع الألغام من محيطه لتفادي أزمة غذائية عالمية كبرى (إذ تشكّل الصادرات الأوكرانية أكثر من 70 في المئة من احتياجات أسواق القمح والحبوب في غرب آسيا وفي دول إفريقيا)، من الصعب القول بتوفّر شروط لحلول سياسية.
ذلك أن لا بوتين بوارد التراجع، إذ كل تراجع أو قبول بتسويات ليس فيها الحدّ الأدنى الذي وضعه لعملياته (تكريس «روسية» أراضي الدونباس والقرم وبحر آزوف وإعلان كييف حيادها دولياً) يعني هزيمة له، خاصة بعد حجم الخسائر البشرية والمادية في جيشه وبعد العقوبات الاقتصادية والمالية الغربية غير المسبوقة ضد المصارف والشركات والمؤسسات الحكومية الروسية وعدد كبير من أفراد الأوليغارشيا الروسية المقرّبين إليه. ولا أوكرانيا والعواصم الغربية الكبرى الداعمة لها قادرة على التسليم بالنتائج السياسية لاستخدام القوة العسكرية ولخرق القانون الدولي داخل أوروبا. فتغيير الحدود بالقتال يُعد بالنسبة للأوروبيين تذكيراً بالحرب العالمية الثانية؛ وإن كان انهيار جدار برلين واندثار الاتحاد السوفياتي وحروب البلقان قد تسبّبت في تسعينات القرن الماضي بتغييرات جيوسياسية كبرى، فإن ذلك اعتُبر استثناءً في سياق ما بعد الحرب الكونية، ولم يعد من الممكن توقّعه أو القبول بتكرار حدوثه. يضاف إلى ذلك أن واشنطن ولندن ومعهما (ولَو مع تحفّظات) باريس وبرلين تعتبر أن نجاح بوتين في هذه الحرب سيعزّز من نزعاته الإمبراطورية التوسّعية (تجاه جورجيا ومولدافيا مثلاً) وسيهدّد دول البلطيق وبولندا ويوهن الغرب لسنوات طويلة. وهو سيُرسي أيضاً مبدأً في العلاقات الدولية يشجع دولاً على السير بخيارات عسكرية لحسم نزاعات سياسية أو حدودية أو حتى وجودية. وأبرز مثال يُعطى في هذا الباب هو مثال الصين وتايوان الذي يُخشى من احتمالات تحوّله إلى صدام عسكري أو اجتياح صيني للجزيرة يفرض على واشنطن تحديداً تحدّيات جديدة.
يعني كل ما ورد أننا أمام استمرار للحرب وَلَو بمستويات عنف قد تتفاوت وتتبدّل، من دون أن تقدر موسكو، رغم تقدّمها العسكري الصعب والبطيء، على حسم الأمور سياسياً على نحو ما ظنّت قبل أكثر من مئة يوم حين أطلقت عدوانها ضد الأوكرانيين، ومن دون أن يتمكّن هؤلاء وحلفاؤهم الغربيون من إيجاد مخارج أو توازنات تفرض وقف الحرب أو تحدّ من خسائرها. وهذا يعني أيضاً أن التوتّر السياسي واستمرار الأزمات الاقتصادية (لا سيّما المتعلّقة بالطاقة والغذاء) سيكونان من سمات المرحلة المقبلة أوروبياً وعالمياً.
القدس العربي
Be the first to write a comment.