كُتب الكثير عربياً عن الحرب الإسرائيلية المستمرّة منذ عشرة أشهر ضد الفلسطينيين في غزة، وسيُكتب الكثير عنها أيضاً في الأشهر المقبلة.
النص التالي يتناول ثلاث قضايا تُثار على نحوٍ متسرّع، في حين أن النقاش الرصين حولها وحول مؤدّياتها قد يكون ضرورياً لتوضيح المواقف وفرزها.
القضية الأولى هي قضية البعد الحقوقي أو التعريفات القانونية لخصائص الحرب الدائرة، مع ما لها من مترتّبات وتداعيات. ذلك أن عدّة مستجدّات طرأت منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. فلأوّل مرة في تاريخ الصراع في فلسطين، تُحاكم إسرائيل (التي حظيت منذ تأسيسها بحصانة تامة تجاه الانتهاكات التي ترتكبها) أمام محكمة العدل الدولية بتهمة “الإبادة الجماعية”. والجريمة المذكورة، وهي حالة الفظاعة القصوى في سلّم الجرائم المُعرّفة بموجب معاهدات القانون الدولي الإنساني، نادراً ما اتُّهِم أو يُتّهم طرفٌ بارتكابها (حصل الأمر “رسمياً” مرّة واحدة فقط بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في رواندا، واعتبره البعض قائماً كذلك في البوسنة من دون أن تتبنّى الأمم المتحدّة ذلك). يُعطف على الأمر أن حجم التوثيق لما يجري، لجهة المواد البصرية وتكنولوجيا الخرائط وداتا المعلومات وجمع الأدلّة على الجرائم والمسؤولين عنها، غير مألوف في تاريخ الصراعات، وأولى نتائجه اضطرار المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الطلب الى قضاة المحكمة إصدار مذكّرات توقيف بحقّ رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير دفاعه بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية (وهو ما طلبه أيضاً في ما يخصّ ثلاثة من مسؤولي حركة حماس، ممّا فاقم من الغضب الإسرائيلي إذ عدّت تل أبيب أنه ساوى بينها وبين ميليشيا تصنفّها “إرهابية”). يضاف الى ذلك، حسمُ محكمة العدل الدولية مسألة لا شرعية الاحتلال والاستيطان وتأكيدها أن النظام الاسرائيلي المفروض على الأراضي المحتلة هو نظام تمييز عنصري “أبارتايد”، وهو المعدّ في القانون الدولي “جريمة ضد الإنسانية”.
هذه المستجدّات استدعت وتستدعي ندوات وتحرّكات وأنشطة في الجامعات ووسائل الإعلام والمحافل السياسية والحقوقية الغربية غير مسبوقة منذ عقود في وتيرتها وسعة المشاركة بها، وهي لم تهدأ طيلة الأشهر الماضية. ويبذل الإسرائيليون وحلفاؤهم الألمان والأميركيون على نحو خاص جهوداً هائلة لتقليص الأضرار الناجمة عنها سياسياً وثقافياً وقانونياً، لمعرفتهم بخطورة الربط الذي بات قائماً (ولَو سِجالياً) بين ذكر إسرائيل وذكر الإبادة كفعل تمارسه وليس كفعلٍ ماضٍ “سمح بتأسيسها كدولة”، ولمعرفتهم كذلك بالضغط عليهم وبإرباك ديبلوماسيتهم اللذَين قد تتسبّب بهما مذكّرات التوقيف بحق نتانياهو وغالانت وسواهما إذا ما صدرت.
بمعنى آخر، تُعدّ “حرب غزة” في فظائعها ومترتّباتها حدثاً استثنائياً بالمعنيين الحقوقي والسياسي، وتحظى لهذا السبب باهتمام أكاديمي وقانوني لا يبدو مأخوذاً على محمل الجدّ كفاية في الكتابات العربية، حيث تطغى المواقف من حركة حماس ومن حزب الله أو من إيران دعماً أو عداءً على ما عداها، وتتعامل مع حدث استثنائي في التاريخ الحديث بوصفه مجرّد حرب أُخرى، فتستكمل سجالات مألوفة وسقيمة بين “ممانعين” وخصومٍ لهم يكرّرون نفس المقولات والشعارات.
القضية الثانية، وهي وثيقة الارتباط بسابقتها، تتعلّق بفهم أسباب تحوّل المسألة الفلسطينية اليوم عند قطاعات واسعة من الشباب والطلاب الجامعيين في فرنسا وبريطانيا وأمريكا وكندا مثلاً الى قضية كفاحية والى مدخل للعلاقة بالسياسة وبالشأن العام محلياً كان أو كونياً. فالشباب والطلاب هؤلاء، بحساسيّتهم العالية تجاه قضايا العدالة والحرية وحقوق الانسان والبيئة، وبنقدهم الجذري لسياسات بلادهم ولتاريخها الكولونيالي، يرون في حرب إسرائيل على الفلسطينيين التجسيد الأبشع لمزيج الغطرسة والتطوّر التكنولوجي المعطوف على بربريةٍ ومسلك إبادةٍ محميّين بحصانة توفّرها حكوماتهم التي تزوّد تل أبيب أيضاً بالسلاح والمال والعتاد. وهذا يجعلهم يعتبرون المسؤولين السياسيين عندهم شركاء في قتل الفلسطينيين وتجويعهم وتدمير عمرانهم، ويجعلهم كذلك يستعيدون ما قرأوا عن الحروب الاستعمارية وما عرفته من ممارسات وجرائم بحق “الشعوب الأصلية”، فيَرون في الحرب على غزة وعلى الضفة الغربية والقدس الشرقية استمراراً لها في العام 2024.
هكذا، تحوّلت فلسطين بالنسبة إليهم الى عنوان ثقافي وقانوني وأخلاقي داخلي و”أممي”، والى قضية فرز سياسي خلال الانتخابات (الفرنسية والبلجيكية بخاصة). وها هي الآن تُملي خيارات وتحالفات قُبيل الانتخابات الأمريكية، على نحو غير معهود. وصارت بعلَمِها ورمزيّته حاضرةً في معظم التحرّكات السياسية اليسارية، ولَو غير المرتبطة مباشرة بها، كتلك المناهضة للفاشية ولليمين المتطرّف أو الرافضة للعنف الاقتصادي وللعنصرية، أو الداعمة لحقوق الأقليات والمدافعة عن المهاجرين والمعارضة لقمع الشرطة. وباتت بالتالي محور تقاطع بين الحركات الاجتماعية التقدّمية الجديدة الناظرة الى تعدّد الكفاحات وتداخلها كمنطلق لبناء هويّاتها.
وكلّ هذا يذكّر بما شهدته الجامعات والساحات العامة الأمريكية في أواخر الستينات ومطلع السبعينات من حراك رافض للحرب في فييتنام، ويذكّر أيضاً وخصوصاً بحملات التضامن في جامعات أوروبا الغربية في الثمانينات ومطلع التسعينات مع كفاح الجنوب أفريقيين ضد نظام التمييز العنصري، مما أدّى مع الوقت الى مقاطعته وعزله، بعد عقود طويلة من تواطؤ الحكومات الغربية معه ودعمها له.
وعوض متابعة هذه الظاهرة والتدقيق في أبعادها وتبعاتها المحتملة، يكتفي كثر من الكتّاب العرب بمديح التحرّكات المذكورة وانتقاء ما يُناسبهم من شعاراتها (واستبعاد كلّ ما يخصّ شؤون الحريات الفردية والمسلكية والحقوق النسوية المكّملة لها) أو بذمّها وتقريعها، انتقاءً أيضاً لشعارات (نادراً ما ظهرت) وتناسياً لسواها. المفارقة هنا أن “الليبراليين” العرب الذين لطالما تمثّلوا بالغرب كنموذج سياسي وحقوقي واقتصادي باتوا طليعة الهجّائين لأفضل ما فيه اليوم من ظواهر تقدّمية وإنسانية وحقوقية وثقافية منفتحة على العالم، وأقرب بمواقفهم الى الرجعيّين فيه، أو في أحسن الأحوال المحافظين الهجّائين مثلهم للتحرّكات الطلابية والنقابية والـ”ووكية” الداعمة للفلسطينيين (مع فارق طبعاً أن كثراً من الصحافيين والكتّاب العرب الذين يهاجمون التحرّكات في الجامعات الأمريكية، لم يدخلوا مرّة الى جامعة أمريكية أو يجتمعوا بطلّاب فيها)..
أما القضية الثالثة، وهي قضية يسمّيها البعض “نقداً ذاتياً” والبعض الآخر “نقداً للسائد”، فتستحقّ التوقّف عند مصطلحاتها أولاً قبل البحث في مضمونها ومراميها. فالنقد المذكور غير واضح المقاصد والميادين. والذات الجماعية فضفاضةُ التعريفات المحتملة، وتفترض انتماءات واكتمالاً وإجماعات غير موجودة، وهي فوق ذلك “ذات” لا قوام لها بمعزل عمّا يحيط بها من عوامل “غير ذاتية” تتبدّل وتتطوّر ولا يمكن لها أن تبقى ثابتة.
وإذا كان النقد للسائد، فليس ثمة ما يدعو للاعتقاد أن السائد هو “الممانعة” ومنظوماتها المقصودة ضمناً (وهي بلا أدنى شكّ الأكثر توحّشاً وفساداً ورثاثة في المنطقة بأكملها)، في حقبة صارت فيها نصف الأنظمة العربية مطبّعة بشكل أو بآخر مع إسرائيل، وقسمٌ من نصفها الثاني ينتظر ذلك بفارغ الصبر. والأنظمة هذه جميعها نجحت، بعد دحرها ثورات الموجتين العام 2011 و2019، في منع التظاهرات الشعبية الداعمة للفلسطينيين اليوم (مع استثناء مغربي لأسباب تتعلّق بالتوازنات الداخلية) أو الحدّ منها، وباتت دور نشرٍ ومؤسسات فنية ووسائل إعلام مرئي عربية كثيرة (قد تكون الأكثر عدداً) أقرب في لغتها ومصطلحاتها وضيوفها وكتّابها الى وجهات النظر غير المُعتبرة “سائدة”، أي تلك المدّعية “نقداً للذات” (وأحياناً تشهيراً بها).
الأهمّ ربما أن دعاة “النقد الذاتي” لا يُشهرون دعوتهم إلا إذا تعلّق الأمر بالمسألة الفلسطينية. إذ لا يبدو النقد هاجساً عندهم في ما يخصّ الاستبداد الذي لم يعتمد مركزية القضية الفلسطينية وثقافته ونماذجه الاقتصادية الريعية، ولا البنية الأبوية العربية في علاقاتها القبلية وهرميّاتها الصارمة وفي تمييزها المتذرّع بالدين ضد النساء، ولا انتفاء ثقافة العمل في أكثر المجتمعات وأسباب ذلك، ولا شبكات النفوذ المالي والإعلامي ومحرّماتها وأثرها على ثقافة الناس وفهم الإسلام وعلى الإنتاج والنشر، ولا منظومات الاستهلاك وسياسات الإنفاق وآليات صنعها. وهذه تستحقّ “نقداً ذاتياً” قد لا تُتيحه كثرة من المنابر “الليبرالية”.
وحتى لو وضعنا جلّ هذه الأمور جانباً، يبدو مؤدّى النقد المقصود وهدفه منذ 7 تشرين/أكتوبر تحميل حركة حماس وقسماً من الغزاويّين مسؤولية إبادة إسرائيل لعشرات الألوف منهم، على نحو لا يختلف كثيراً عن تحميل البعض قبل سنوات الشعب السوري الذي ثار على نظام الأسد مسؤولية قصف الأخير له بالكيماوي والبراميل. فالمنطق هو نفسه، ويرتبط بلوم طرف على استجلاب فظائع على ناسه، بسبب هويّته الأيديولوجية أو ثقافته أو بعض ممارساته. وإذا كان توجيه النقد للعملية الحمساوية وحساباتها مشروعاً، وإذا كان التذكير بالقانون الدولي الإنساني ضرورياً لاستنكار وتجريم قتل المدنيين في أي موضع، وإذا كان النقاش حول جدوى الكفاح المسلّح برمته مبرراً و”مفيداً” ومثله البحث في ثقافات دعاته وممارسيه وولاءاتهم، يبقى أنه في القانون الدولي إياه وفي القوانين الجنائية كلها، لا تُبرَّر جرائم على أساس جرائم أخرى سبقتها (أو وازتها)، فكيف إذا كان الامر حربَ إبادة أو سلسلة جرائم ضد الإنسانية لا مسؤول في القانون عنها سوى مرتكِبها!
في أي حال، لا يدّعي ما ورد أكثر من مساءلة لكتابات ولمواقف تبحث عن النقد وتصبو إليه، وهو دعوة لمواكبة تطوّرات ستكون العودة الى الجامعات بعد إجازات الصيف منطلقاً لها في الكثير من بلدان العالم، حيث سنشهد تجديداً للنشاطات وللضغوط على الحكومات التي ما زالت تمدّ إسرائيل بما يمكّنها من مواصلة مجازرها ضد الغزيّين…
القدس العربي
Be the first to write a comment.