سورية اليوم بلد متعب، ومستنزف، ومتهالك، من كل النواحي، وهذا يشمل تدهور قطاعات الاقتصاد الإنتاجية والخدمية، واهتراء وتقادم البني التحتية، وضياع كتلة الأجر لقطاع كبير من العاملين في إطار أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، الذين لا يغطي راتب الواحد منهم مؤونة أيام معدودة، بنتيجة انهيار قيمة العملة، يضاف إلى كل ذلك صعود أسعار السلع والخدمات، وضمنها النقل، مع ارتفاع نسبة البطالة والفقر، وهي كلها أوضاع تؤشر على أزمة اجتماعية كبيرة، مع كل التداعيات الناجمة عن ذلك.
هذا يشمل، أيضا، حال الفراغ السياسي والدولتي، إذ أن السلطة الانتقالية، أو حكومة تصريف الأعمال، لم تستطع القبض تماما على كل مفاصل الدولة، في كل القطاعات، لاعتبارات ذاتية وموضوعية، نسبة لظروف تكوينها وطبيعتها، لا تمتلك القدرة أو الإمكانيات أو البنية القادرة على حمل سوريا، بالنظر لحداثة ومحدودية تجربتها، والفترة الزمنية الضيقة، ولانشغالها بالهاجس الأمني، وتعزيز سلطتها في كل المناطق، على حساب الأولويات الأخرى.
ومن البديهي أن المواطن السوري بعد كل تلك المعاناة التي اختبرها، طوال السنوات السابقة، ومع شعوره بالحرية، وارتياحه للتخلص من سطوة النظام السابق، يتطلع إلى تحسين مستوى معيشته، والشعور بالأمان والإطمئنان، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، في أقرب وقت ممكن.
بيد إن الأمر لا يقتصر على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية إذ يشمل ذلك الفراغ السياسي المريع الذي طبع الحالة السورية بطابعه، طوال أكثر من نصف قرن، والذي يفاقم من كل المشكلات السابقة، وهو ناجم عن السياسة التي انتهجها نظام الأسد (الأب والابن) الذي حرم السياسة، والأحزاب السياسية، باستثناء الأحزاب التي تشتغل تحت هيمنته في إطار “الجبهة التقدمية، التي ليس لها في اسمها أي نصيب.
ولعل مشكلة السوريين في هذه المسألة أنهم افتقدوا للحياة السياسية، ولحرية الرأي والتعبير، الفردي والجمعي، داخل بلدهم، طوال 55 سنة، وإن عدوى ذلك استمرت معهم، لدى خروج ملايين منهم إلى الخارج، إذ لم يستطيعوا تشكيل كيانات سياسية وازنة أو فاعلة، في البلدان التي عاشوا فيها، والتي تتيح لهم حرية العمل السياسي (تركيا والدول الأوروبية)، بسبب افتقادهم للتجارب والخبرات السياسية، وضعف اجماعاتهم الوطنية، والمداخلات الخارجية التي تحكمت بمسارات وتوجهات كيانات المعارضة التي أنشئت، سواء السياسية او العسكرية او الخدمية.
إذن سوريا اليوم تعيش في فراغ مهول، اقتصادي ودولتي وسياسي، لا يخفف من وطأته سوى حال الارتياح العام التي تشي معظم السوريين نتيجة التخلص من نظام الأسد الذي مكث على صدورهم أكثر من نصف قرن، والذي تبين أن هذا النظام قائم على بنية هشة، إذ لا دولة، ومجرد سلطة، لا دولة عميقة، ولا دولة باطنة، لا اقتصاد دولة ولا اقتصاد طبقة، لا مجتمع مدني ولا نقابات ولا أحزاب، فكل شيء تبخر بلحظات، بذات الطريقة التي تبخر فيها الرئيس الذي تجرأ على حكم سورية، كوريث لوالده، على مدى 24 عاما، تسبب فيها في تهجير نصف السوريين، وتدمير مدنهم وعمرانهم، وتنشيف عروق بلدهم.
الشيء المطمئن حتى الآن، في هذه المرحلة الانتقالية، أن التغيير السياسي الذي حصل في سوريا تم بسلاسة ومن دون معارك، تقريبا، وأن كل المظالم السابقة، وكل بذور الكراهية التي ذرعها النظام السابق بين السوريين، لم ينجم عنها ردات فعل ثأرية أو انتقامية، كظواهر جماعية، أي باستثناء انتهاكات متفرقة لحالات فردية أو خاصة، وأن ثمة اجماع بين معظم السوريين على تجاوز آثار الماضي، لمصلحة الحفاظ على وحدة سوريا، وإعادة بناء الدولة كدولة لكل السوريين.
الآن، من الواضح أن كل شيئ، يتعلق باليوم التالي في سوريا، أي شكل سوريا القادمة، وطبيعة النظام السياسي فيها، وبناء الاجماع الوطني بين السوريين، يتوقف على طريقة عبور المرحلة الانتقالية الراهنة، بالاستفادة من التجارب التي حدثت في مصر وتونس وليبيا والسودان والعراق ولبنان واليمن.
على ذلك من الطبيعي أن تهتم السلطة الانتقالية، التي حددت فترة الثلاثة أشهر (تنتهي في آذار/مارس القادم) بتعزيز سلطتها على الأرض، لمواجهة أي محاولة من بعض أطراف النظام السابق التحرك، أو استدراجها للعنف، بخلق مشكلات أمنية، لكن تبقى المهم التأسيسية للسلطة الانتقالية هي عدم الوقوع في هذا الاستدراج، عبر تأهيل أجهزة أمنية متخصصة، وتخضع في عملها للقانون، ولمرجعية سياسية تتأسس على تأكيد الحفاظ على الأمن والاستقرار لكل المواطنين بدون أي تمييز، مع انفاذ سياسة “العدالة الانتقالية”.
الأولوية الأخرى للسلطة الانتقالية تتمثل بخلق الأجواء المناسبة لإنضاج اجماعات وطنية تؤلف قلب السوريين، من خلال اتاحة المجال لتشكيل كيانات سياسية، وعبر وسائل الاعلام، ومن خلال المنابر، لأن هذه الخطوة هي التي تمهد لانضاج فكرة المؤتمر الوطني، أو المؤتمر التأسيسي، المفترض، الذي سيأخذ على عاتقه صوغ دستور، يتأسس على قيم عليا فوق دستورية، أي لا يمكن المس بها أو تعديلها، من قبل أية أغلبية انتخابية، في المستقبل، وهي قيم الحق في الحياة والحرية والكرامة الإنسانية والمساواة، بين المواطنين، من دون أي تمييز، لأن ذلك ما يجعل من السوريين، بكل مكوناتهم، شعبا، وهذا ما يجعل سوريا كدولة مواطنين حقا.
ضمن ذلك، أو بالتوازي معه، لا بد من العمل من أجل تحسين المعيشية للمواطنين، من خلال اتاحة المجال للنهوض بالقطاعات الاقتصادية، وفتح المجال أمام الاستثمارات، وتوفير بيئة قانونية وسياسية توفر الضمانات اللازمة لذلك، لأن تحسين الأوضاع الاقتصادية يضمن الاستقرار السياسي والاجتماعي أيضا، كما يضمن عودة المواطنين السوريين، وهذين هما الشرط لإعادة إعمار سوريا، والنهوض بها، وتعزيز مكانتها على الصعيدين العربي والدولي.
لا حق لأحد، ولا لأي سلطة، ولا لأي حزب، التلاعب بمصائر السوريين، لأن ذلك يعني إعادة انتاج النظام السابق، بطريقة جديدة، وهذا أمر لن يؤدي إلى نجاح أي سلطة، بحسب خبرات عديد من الأنظمة العربية، كما لن يفيد شعب سوريا، الذي يستحق العيش بحرية وكرامة بعد كل ما قدمه من معاناة وتضحيات.
النهار العربي
Be the first to write a comment.