شهدت سوريا مطلع تشرين الأول (أكتوبر) الجاري إعلان تشكيل مجلس الشعب الجديد، في خطوة وُصفت رسميًا بأنها انتخابية، لكنها بدت في تفاصيلها أقرب إلى عملية تنظيم إداري منها إلى منافسة سياسية حقيقية، وسط توقعات بأن تمثل هذه الخطوة نقطة انطلاق لإعادة بناء المؤسسات الدستورية وإحياء الحياة السياسية بعد سنوات من الانقسام والعزلة.
غير أن ما بدا في ظاهره خطوة نحو الاستقرار، كشف في عمقه عن سلسلة من التحديات البنيوية التي أحاطت بالعملية برمتها – من آلية التمثيل إلى حدود المشاركة. ومع أن السلطات السورية الانتقالية رأت فيها «ترسيخاً للاستقرار السياسي»، فإن أصواتاً حقوقية وسياسية رأت أن ما جرى لا يرقى إلى مستوى العملية الديمقراطية الموعودة، بل يعيد إنتاج نمطٍ قديم بوسائل جديدة.
بدأ المسار الانتقالي الذي أوصل الى تشكيل المجلس عقب مؤتمر النصر، الذي عُقد في 29 كانون الثاني (يناير) 2025، حين توافقت القوى العسكرية على تعيين الرئيس. وقد منح الإعلان الدستوري الصادر في 13 آذار (مارس) 2025 هذا المسار غطاءً قانونياً، حدد مهام المجلس في التشريع، وإقرار الموازنات، والمصادقة على المعاهدات الدولية، على أن تمتد ولايته ثلاثين شهراً قابلة للتجديد.
لكن سرعان ما أظهرت التفاصيل التنفيذية ملامح الانحراف عن روح الإعلان. فالمراسيم اللاحقة – خاصة المرسومين رقم 66 ورقم 143 – منحت اللجنة العليا للانتخابات صلاحيات شبه مطلقة لإدارة العملية، بدءاً من تشكيل الهيئات الناخبة وصولاً إلى إعلان النتائج النهائية.
وبينما نصّ الإعلان الدستوري على انتخاب ثلثي الأعضاء وتعيين الثلث المتبقي بمرسوم رئاسي، فإن غياب المحكمة الدستورية العليا حرم العملية من رقابة قضائية كانت ضرورية لضمان الشفافية والنزاهة.
ولم يكن استبعاد محافظات مثل السويداء والرقة والحسكة أقلّ جدلاً، إذ فسّره مراقبون بأنه يضرب مبدأ التمثيل الوطني في الصميم.
تمثيل ناقص وغياب لافت للنساء
وما إن أُعلنت النتائج، حتى ظهرت ملامح الخلل البنيوي في التمثيل داخل المجلس. ففي حين روّجت السلطة الانتقالية للانتخابات بوصفها خطوة نحو الشمول، أظهرت الأرقام واقعاً مغايراً، غياب شبه تام للنساء في محافظات رئيسية مثل إدلب وحلب ودمشق.
في إدلب، لم يُسجّل أي ترشح نسائي مستقل، بينما اقتصرت المشاركة في حلب على عدد محدود من الإداريات «المقرّبات» من السلطة الانتقالية. أما دمشق، العاصمة السياسية، فخلا معظم القوائم من المرشحات المستقلات.
وحسب مؤسسة «اليوم التالي» السورية، لم تتجاوز نسبة النساء 6 في المئة. لكن النساء لم يكنّ وحدهن الغائبات؛ فقد شمل التهميش أيضاً الجرحى والمعتقلين السابقين وذويهم، وهم الفئات التي دفعت ثمناً باهظاً في سنوات الحرب.
وهكذا، بدلاً من أن يكون المجلس مرآة للتنوع السوري، جاء انعكاساً محدود الزوايا. فبينما تحدث الإعلان الدستوري عن «تمثيل شامل ومتوازن»، جاءت النتائج لتُعيد سؤال الشرعية التمثيلية إلى الواجهة، وتُظهر المسافة الواسعة بين الطموح النظري والواقع التنفيذي.
لم تمر العملية بدون ردود فعل حذرة من مؤسسات المجتمع المدني. فالكثير من المراقبين رأوا في المجلس «تجربة ناقصة» بحاجة إلى مراجعة جذرية قبل أن يتحول إلى مؤسسة مستقلة.
أشار معتصم السيوفي، المدير التنفيذي لمؤسسة «اليوم التالي»، لـ«القدس العربي»: «ما جرى لا يمكن اعتباره تشكيلًا متكاملًا لمجلس تشريعي فعلي. المجلس يضم الكثير من الأصوات الثورية، لكنه لا يعكس التنوع الحقيقي للمجتمع السوري ولا يعبّر عن تمثيل وطني شامل.»
وأضاف أن «نتائج الانتخابات لم تؤسس لوفاق وطني، بل أبرزت غياب مناطق مثل شرق سوريا والسويداء، ما خلق شروخاً تحتاج إلى معالجة سياسية جادة».
أما فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقال إن «الظروف الراهنة لا تسمح بإجراء انتخابات تمثيلية حقيقية، لأن البيئة السياسية والأمنية لا تزال تفتقر إلى الضمانات القانونية والمؤسساتية الكفيلة بضمان الشفافية».
ورأى في اتصال مع «القدس العربي» أن الشبكة قدمت رؤية تدعو إلى مجلس توافقي انتقالي يقوم على تمثيل جغرافي ومجتمعي ومهني متوازن، يضمن مشاركة النساء والشباب في صياغة الدستور الجديد.
وبينما رأى بعض الناشطين أن تشكيل المجلس خطوة على طريق بناء المؤسسات، اعتبر آخرون أن غياب آليات المساءلة والتوازن بين السلطات يعيد إنتاج مركزية السلطة ذاتها التي كانت سبباً في الأزمة السورية الأولى.
الرئيس أمام اختبار صعب
على ضوء هذه النتائج، وجد الرئيس أحمد الشرع نفسه أمام مهمة معقدة ومزدوجة، هي ترميم الخلل التمثيلي وضبط التوازن السياسي في آن واحد.
فوفق المرسوم الناظم، يحق له تعيين 70 عضواً ضمن الثلث المخصص للتعيين الرئاسي، لتصحيح الخلل في تمثيل الفئات المستبعدة.
لكن النقص الكبير في تمثيل النساء – إذ لم تفز سوى عشر سيدات من أصل نحو 140 مقعداً – يفرض على الرئيس الشرع مهمة استثنائية، هي تعيين أكثر من 50 سيدة لضمان التوازن الجندري الذي نص عليه المرسوم.
ويرى مراقبون أن هذا التحدي يضع الشرع أمام اختبار حقيقي بين خيارين متناقضين:
إما تعيين نساء مستقلات وناشطات من المجتمع المدني بما يعزز الانفتاح، أو الاكتفاء بوجوه تقليدية قريبة من السلطة لتأمين الانسجام السياسي.
وسيكون تعيين هذا العدد من النساء ليس مجرد استكمال شكلي، بل مؤشر سياسي على نية الرئيس في إعادة رسم المشهد. فكل اسم سيُعيَّن سيكون بمثابة رسالة عن وجهة المرحلة القادمة. كما ان هذا التعيين في حال لجأ إليه الشرع، سيضعف من إمكانية مناورته في تعيين وترميم فئات إثنية وعرقية واجتماعية أخرى من الرجال.
وفي المقابل، تبقى ملفات الجرحى والمعتقلين والمناطق المدمّرة من دون تمثيل واضح، ما يضيف عبئاً جديداً على المجلس الوليد في سعيه لكسب ثقة الشارع وإثبات قدرته على إدارة قضايا العدالة والمصالحة.
رغم الأجواء الرسمية والشعبية الإيجابية التي رافقت الانتخابات الضيقة للمجلس، ما زال الجدل محتدماً حول قدرته على لعب دور فعّال في صياغة المستقبل السياسي.
فمن جهة، يرى مؤيدو التجربة أنها خطوة ضرورية لبناء مؤسسات الدولة الجديدة بعد سنوات من الفراغ الدستوري، وأن أي مسار ديمقراطي يحتاج إلى بداية ولو كانت متعثرة.
لكن من جهة أخرى، يرى منتقدون أن المجلس الجديد أعاد إنتاج منطق المركزية والهيمنة السياسية القديمة بوسائل أكثر نعومة.
وبين هذين الرأيين، يقف المجلس أمام معادلة صعبة: كيف يحقق التوازن بين الاستقرار والتمثيل؟ بين الحاجة إلى الفعل السياسي وبين مطلب الرقابة الشعبية؟
وفي هذا السياق، يبدو أن مجلس الشعب/ التشريعي لعام 2025 سيكون اختباراً مبكراً لقدرة المرحلة الانتقالية على تجاوز إرث الماضي نحو بناء شرعية جديدة أكثر تمثيلاً وعدلاً.
طريق وعر نحو الشرعية الجديدة
يواجه المجلس الجديد جملةً من التحديات البنيوية والسياسية، أبرزها ضعف التمثيل الجندري، وغياب الفئات المتضررة من الصراع.
كما يواجه الرئيس أحمد الشرع اختباراً بالغ الحساسية في تعيين النساء واستكمال التوازن داخل المجلس، من دون الإخلال بمبدأ الكفاءة والاستقلالية.
ومقارنةً بما سبق من تجارب، فإن نجاح هذه المرحلة لن يُقاس بعدد القوانين الصادرة، بل بقدرتها على بناء ثقة عامة جديدة تُعيد للمواطن السوري إيمانه بالمؤسسات، وتفتح الباب تدريجياً أمام حياة سياسية حقيقية.
الأخطر من هذا وذاك، هو عدم استكمال تمثيل محافظات الرقة والسويداء والحسكة.
القدس العربي




Comments are closed for this post.