قبل أن يتكفل الزلزال الأخير بالقضاء على 3162 سورياً وإصابة 5685 حتى ساعة تحرير هذه السطور، في مختلف المناطق المنكوبة من سوريا؛ كانت أرقام أخرى تنطق عن الشقاء السوري غير الناجم عن الكوارث الطبيعية، تحت نير 53 سنة من نظام الاستبداد والفساد الذي أقامه آل الأسد، بينها 12 سنة من إشراف الوريث بشار الأسد على قمع الانتفاضة الشعبية عن طريق إزهاق أرواح مئات الآلاف، وتشريد الملايين، واعتماد خيارات الأرض المحروقة والتدمير الشامل والتطهير المناطقي، وتسليم البلاد إلى خمسة احتلالات، فضلاً عن عشرات الميليشيات المذهبية ومفارز المرتزقة.

إحصائيات الأمم المتحدة كانت تقول إنّ 70٪ من سكان سوريا هم في حاجة فعلية إلى العون بمختلف أشكاله، غذائياً وصحياً وإنسانياً؛ و«برنامج الغذاء العالمي» يكمل مشهد البؤس بالتحذير من أنّ الجوع بلغ معدلات قصوى لا أمثلة عليها في تاريخ سوريا، مع 2.9 مليون نسمة يقتربون من حافة المجاعة، و12 مليون لا يعرفون متى سيحصل أيّ منهم على وجبة طعام مقبلة. مكاتب أخرى أممية تشير إلى أنّ 90٪ من سكان سوريا الـ18 مليون نسمة يعيشون في حال من الفقر، ومعاناة الأوبئة والأمراض المتفشية ونقص الأدوية؛ وأمّا العملة الوطنية، التي كانت قبل 2011 سنة الانتفاضة تُصرف بـ50 ليرة أمام الدولار الأمريكي، فإنها قبيل الزلزال الأخير تُصرف بأكثر من 7.000…

الزلازل لم تفرّق، بالطبع، بين مناطق تحت سيطرة «المعارضة» أياً كانت إفادة هذه المفردة بين ميليشيات جهادية وحكومات إنقاذ كرتونية وائتلافات ومجالس وهيئات ومؤسسات صادقة النوايا أو كاذبة فاسدة ناهبة؛ ومناطق تابعة للنظام، أو تديرها بالشراكة معه جيوش محتلة، وميليشيات محلية أو خارجية تابعة، وعصابات نهب وتهريب وقرصنة وكبتاغون. واكتوى بلهيب الزلازل مواطنون من جنديريس وحارم والقامشلي، مع أبناء بلدهم في شمال حلب وجبلة وريف حماة، وحُرموا استطراداً من موجات الإشفاق العالمية التي تعالت واصطخبت؛ تارة لأنّ النظام مصرّ على تمرير المعونات عبر طرقاته ومعابره السيادية (أي تلك الكفيلة بإتاحة النهب المباشر وتحويل المساعدات إلى خزائن مافيات النظام) وتارة أخرى لأنّ السلطات التركية منشغلة بحصتها من الكارثة ولشعبها ومناطقها أولوية غير قابلة للتجزئة. الإنسانية من جانبها، وهي هنا ذلك الخليط العجيب من «العالم الحرّ» و«المجتمع الدولي» وعشرات المنظمات غير الحكومية، تعلن النوايا الأحسن وتعرب عن الاستعداد التامّ لتقديم العون، مكتوفة الأيدي أو تكاد إزاء وضع «قانوني» عالق في معبر مفتوح مثل باب الهوى، أو في معابر أخرى يُنتظر أن تفتح أبوابها معجزةٌ ما!

وفي المقابل لا يعدم الضحايا السوريون، أينما وقعت مآسيهم في كلّ شبر من سوريا الواحدة، جبهات نفاق وسوء استغلال وتشويه لا تضاعف الآلام والعذابات فحسب، بل تضيف الإهانة المباشرة على الجراح النازفة؛ كما حين تصحو من سبات عميق تلك الحملة الكاذبة الزائفة التي تطالب بـ«رفع الحصار عن سوريا» بينما المقصود الوحيد هو فكّ الخناق عن مافيات النظام وعصابات الكبتاغون. وسواء اتفق المرء مع العقوبات الاقتصادية الدولية عموماً والأمريكية منها خصوصاً، أو كان مناهضاً لها (كما هي حال هذه السطور) بسبب أنها لا تؤذي الأنظمة بمقدار إيذاء الشعوب والشرائح الأكثر فقراً ومعاناة؛ فإنّ جملة الحقائق الصلبة التي تتصل بالعقوبات الراهنة المفروضة على النظام السوري تؤكد أنها لا تحول، البتة، دون إيصال المساعدات الإنسانية، والغذائية والطبية منها على وجه الخصوص.
والضحايا أنفسهم لن يعدموا جوقة عداء صاخبة، لا تتورع عن اللجوء إلى أقصى مستويات البذاءة، في تأثيم متطوّعي «الخوذ البيضاء» الذين ينشغل نحو 3000 منهم في أعمال الإغاثة والإنقاذ وانتشال الأحياء والجثث من تحت الأنقاض؛ وقد أنجزوا في السنوات العشر الأخيرة، ويواصلون اليوم إنجاز، الكثير من المهامّ الصعبة أو شبه المستحيلة في مناطق الشمال الشرقي من سوريا، تحت قصف مدفعية النظام وراجماته وحواماته وبراميله المتفجرة، وبمشاركة مباشرة من القاذفات الروسية. فإمّا أن يتهمهم «علماني» مزيف منافق بتمرير أجندات «إسلاموية» وفي هذا وقاحة صارخة لا حدود للسخافة فيها؛ أو أن يعيّرهم «ممانع» لا يقلّ زيفاً ونفاقاً، بأنهم ليسوا سوى استطالة للاستخبارات التركية.

وإذْ يصغي المرء إلى نيد برايس، الناطق باسم الخارجية الأمريكية، وهو يشدد بإباء على أنّ الإدارة في ملفّ المعونات لن تتعامل مع النظام السوري الذي ارتكب الفظائع بحقّ الشعب السوري؛ فإنّ المرء ذاته لن يسمع من برايس مفردة واحدة تفيد بأنّ قسطاً من المعدات والمساعدات والأموال سوف يصل إلى أيّ من أولئك الـ3000 الذين يصارعون الزلازل ويسابقون الزمن في المناطق المنكوبة. وبالطبع، يندر لدى لائمي «الخوذ البيضاء» التوقف عند حقيقة أولى كبرى تقول إنهم، حتى إشعار آخر، وحدهم في ميادين الإغاثة تلك؛ وحقيقة أخرى تفيد بأنّ نحو 252 من متطوّعيهم استُشهدوا حتى الساعة، فوق الأنقاض أو تحتها.

وكما يحدث في كلّ مأساة من طراز مماثل لما شهدته مناطق تركية وسورية مؤخراً، يصحّ للمرء أن يتذكر تلك الإحصائية الطريفة السوداء التي اقترحها أحد الأذكياء، الكاتب البريطاني جورج مونبيوت، ذات كارثة غير بعيدة: ساعة وقوع زلزال تسونامي في المحيط الهندي سنة 2004، كان الاحتلال الأمريكي للعراق قد دخل في يومه الـ 656، وكانت واشنطن قد أنفقت حتى ذاك التاريخ قرابة 148 مليار دولار في تغطية نفقاته؛ وهذا عنى أنّ المبلغ الذي تبرّعت به واشنطن لإغاثة منكوبي جنوب شرق آسيا كان يعادل يوماً ونصف يوم فقط من مصروفات أمريكا! فوق هذا، جدير بالاستذكار مؤشر آخر كان يقول إنّ أرقام المساعدات الخارجية الأمريكية لا تُقارن البتة بما تنفقه واشنطن لخلق المزيد من، أو إدامة وتوسيع نطاق، عذابات الشعوب: إنها تقدّم سنوياً قرابة 16 مليار دولار (بينها ثلاثة مليارات لدولة الاحتلال الإسرائيلي وحدها!) تعادل تُسع إنفاق واشنطن في هذه السُبُل.

وذات يوم أيضاً، على سيرة التسابق المحموم لإغاثة مرابع تسونامي، كان لا بدّ لجهة ما أن تغرّد خارج سرب تماثل وتشابه وتوحّد حتى تسبّب في تشويش الآدمي طيّب القلب حسن النيّة، أو لعلّ الأحرى القول إنّ نغمة نشازاً مدروسة وهادفة كانت جديرة بأن تردّ الأمور إلى بعض نصابها. وهكذا صدر عن منظمة «أطباء بلا حدود» الفرنسية الدولية إعلان إلى الرأي العام يخرج عن الإجماع حقاً، لأنه قال ما معناه: لكم جزيل الشكر! لقد وصلتنا منكم تبرّعات سخيّة تكفي بل تزيد عن حاجة برنامجنا المخصص لإغاثة منكوبي تسونامي، وبذلك نرجوكم التوقف عن التبرّع لهذا البرنامج، وتحويل سخائكم إلى برامج مناطق أخرى من العالم ليست نكباتها الإنسانية أقلّ مأساوية وحاجة! كان الإعلان مفاجئاً بالطبع، وبعض الرأي السطحي بصدده سار هكذا: هل يعقل أن تطالب منظمة إنسانية بالتوقف عن التبرّع؟ والحال أنّ ذلك الطلب لم يكن يعقل إلا من منظمة نزيهة وعادلة في نظرتها إلى الكوارث الإنسانية، تقول ببساطة إنها تريد من الجمهور أن يواصل التبرّع، ولكن ليس إلى نكبة تلقّت أكثر ممّا تحتاج، بل إلى برامج إغاثة أخرى في حاجة ماسّة إلى التمويل.

والتعاطف العالمي مع المناطق المنكوبة في سوريا وتركيا ظاهر بالطبع، والكثير منه صادق ربما؛ ما يخفى، في المقابل، هو ذلك النهج الذي يُخضع الاتجار بالشفقة إلى اعتبارات خدمة الأجندات المبطنة، على اختلاف ذرائعها وأغراضها.

القدس العربي