تختلف أسباب الحربَين الروسيّتين في سوريا وفي أوكرانيا وخلفّياتهما التاريخية، ولا مجال بالطبع للمقارنة بين الحالتين لجهةِ أهداف العمليّات العسكرية الروسية في كل بلدٍ وتداعياتها المحتملة سياسياً واقتصادياً على روسيا وأوكرانيا وعلى سوريا أو على أوروبا وعلى مجمل منظومة العلاقات الدولية وتوازناتها.
غير أن المقارنة بين سوريا وأوكرانيا لجهة العدوانية الروسية وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية المعتمدةِ استراتيجيّةً من قبل موسكو، وردود الفعل على تبعاتها وعلى التعامل الدبلوماسي والعسكري «الغربي» كما على المبادرات «الإنسانية» معها، ممكنة وضرورية، ليس من باب إثارة المظلوميّات أو التنافس عليها، بل من باب التذكير بالقانون الدولي وبمعنى الصمت عن انتهاكه وإفلات منتهكيه من العقاب لسنوات، وعدم التضامن مع ضحايا الجرائم ومع مقاومي مرتكبيها، بما عزّز قناعة الجلّادين بحصانةٍ تُتيح لهم الاستمرار في الانتهاكات.
بهذا المعنى، يمكن التوقّف عند ثلاثة مستويات من التعامل «الغربي» مع العدوانَين الروسي في سوريا وفي أوكرانيا.
المستوى السياسي الحقوقي
المستوى الأول سياسي حقوقي، ويبرز فيه فارق نوعي، لجهة الدعم الدبلوماسي والتسليحي الصريح للمقاومة الأوكرانية للغزو التي تجسّدها الدولة وقوات المتطوّعين، بالترافق مع عقوبات اقتصادية شديدة القسوة على موسكو، من دون قطع العلاقات معها.
في المقابل، قطعت معظم الدول الغربية علاقتها بالنظام السوري وشدّدت العقوبات عليه من دون أن تدعم معارضيه بأسلحة نوعية كصواريخ أرض جوّ التي كانت كفيلة بتغيير قواعد اللعبة في سوريا منذ العام 2012. كما أنها لم تتّخذ عقوبات بحقّ موسكو، نتيجة جرائم الحرب الروسية والجرائم ضد الإنسانية، طيلة السنوات التي تلت تدخّلها العسكري العام 2015، وتدميرها عشرات المستشفيات والبنى التحتية الصحية والتربوية والغذائية، وقصفها الجوي للمدن والمناطق المحاصرة، ممّا خلّف عشرات آلاف الضحايا المدنيين وساهم في تشريد مئات الآلاف. وكان لذلك أن سهّل لروسيا مهمّة اتّخاذ الساحة السورية مختبراً لمختلف تجاربها العسكرية قبل خوضها الحرب الجديدة منذ قرابة الشهر في أوكرانيا.
المستوى الإعلامي المصطلحي
المستوى الثاني إعلامي مصطلحي، ويبرز في لغته وفي حواراته ومقالاته شبه إجماع على تجريم العدوان الروسي من دون تشكيكٍ دوريّ بهويّة مرتكبي الجرائم أو قولٍ بصعوبة فهم ما يجري أو بتعذّر التأكّد من صدقية الأخبار الواردة من المناطق المحاصرة أو المقصوفة. وذلك على العكس ممّا كان يدور في بعض الإعلام المرئي وعلى لسان قسم من ضيوفه في فرنسا مثلاً كما في بلجيكا وسواهما، خلال القصف الروسي – الإيراني – الأسدي على المدنيّين في سوريا.
ويجوز القول إن بعض المقارنات اليوم في ما خصّ الأساليب الحربية الروسية واستذكار حلب عند ذكر ماريوبول، والغوطة وبعض المناطق السورية المحاصرة ثم المدمّرة عند الحديث عن مناطق على تماس مع «جمهوريّتي الدونباس» الانفصاليّتين، أو المقارنة بينها وبين شبه جزيرة القرم، يستعيد تفاصيل الانتهاكات الروسية في سوريا أكثر ممّا كان يُشار إليها عند حدوثها قبل سنوات.
وفي هذا ما يؤكّد الآن أن جانباً من السردية التي دافع عنها المعارضون السوريّون وحلفاؤهم لم يعد بوسع أحد التشكيك بها أو القول بضرورة التدقيق فيها «لأن ملامح القتلة لم تكن مكتملة». ولعلّ في هذا المستوى ما ينبغي العمل عليه والتركيز على ما يُمليه اليوم وغداً تجاه سوريا وإفلات المجرمين حتى الآن من العقاب فيها.
المستوى «الإنساني»
أما المستوى الثالث، فيرتبط بالحقل الممكن تسميته بالـ«إنساني»، أي ذاك الذي يعبّر عنه المسؤولون الرسميون وممثّلو منظّمات المجتمع المدني، إضافة الى المواطنين ممّن يستفتيهم الصحافيون أو الباحثون في استقصاءات الرأي العام. ويبدو واضحاً في هذا المجال مقدار التعاطف مع الأوكرانيين والاستعداد لاستقبال اللاجئين منهم، والعداء لمُهجِّريهم الروس، بنسب عالية جداً في كامل بلدان الاتحاد الأوروبي المعنية مباشرة بالحرب الدائرة. هذا في مقابل تردّد أو رفض أو قبول خجول (باستثناء ألمانيا، والى حدّ ما السويد) ساد خلال أزمة اللجوء السورية الكبرى قبل سنوات، ومعها وبعدها أزمات اللجوء الأفغانية والعراقية والأفريقية عامة.
ويمكن ذكر سببَين هنا للفارق المذكور. سبب يرتبط بذاكرة أوروبية تكوّنت صوَرها في أرشيف الحرب العالمية الثانية الذي ما زال حيّاً ويُدرَّس، وغذّته الحرب اليوغوسلافية بصوَر فظاعات جديدة في تسعينات القرن الماضي رغم ما عدّه الأوروبيّون غير ممكن الحصول في قارّتهم، فإذا به بعد ثلاثين عاماً يتكرّر على نطاق أوسع وبواسطة قوّة نوويّة عظمى هي جار ثقيل ظنّوه طوى صفحة الاجتياحات والضمّ. ولهذا تأثير كبير على تعاطفهم مع الأوكرانيّين واستعدادهم لاستقبالهم.
السبب الثاني هو بلا شكّ عنصري، وفي أحسن الأحوال ثقافوي، عبّر عنه عفويّاً معلّقون وصحافيّون ميّزوا بين السوريّين والأفغان والأفارقة وبين الأوكرانيّين «الذين يشبهوننا» و«يقودون سيّارات كسيّاراتنا» و«بينهم متعلّمون ومتحضّرون وطبقات وسطى». وعبّر عنه أيضاً سياسيّون يمينيّون ومن اليمين المتطرّف، قالوا إن أمر التمييز بديهيّ ويعود الى لون الأوكرانيّين ودينهم المسيحي وإنهم لا يخجلون من التصريح بذلك. وليس في هذا وحده ما لم يعد «يخجل» اليمين المتطرّف (وجزء من اليمين) من التصريح به، بل في أمور كثيرة أُخرى على صلة بالهجرة والاختلاط والعِرق والدين والنسوية وحقوق المثليّين. وقد تحوّل التعامل الفظّ والعنصري مع بعضها الى خطابٍ تطبّع معه الخطاب السياسي العام، وبات لا ينبذ مصطلحاته وتشبيهاته واستعاراته المتداولة في محطات تلفزة روّجت وتروّج له ولتخلّفه الثقافي.
عدم الانجرار إلى لعبة تنافس الضحايا
وإذ يدفع كلّ هذا الى التشديد الدوري على القانون الدولي خلال الحروب واعتماد معاييره ورفض حصانة منتهكيه في كلّ مكان، يدفع أيضاً الى مواجهة الخطاب العنصري، بشقّيه «العفوي» والسياسي/الإعلامي، تشديداً على حقوق اللجوء وعلى رفض التمييز بين اللاجئين على أساس اللون والعرق والدين والطبقة الاجتماعية. لكنّه يدفع كذلك، وفي المقابل، إلى المناداة بضرورة عدم الانجرار إلى ما يُشبه تنافس الضحايا أو البحث عن تأكيدٍ لمن هو «الضحية أكثر» أو الضحية الأقدم بما يقلّص التضامن مع الضحية «الجديدة».
أوكرانيا إذاً هي اليوم امتحان جديد لقدرة أفراد ومجموعات على المراقبة والمقارنة وأخذ المواقف الواضحة تجاه العدوانية وذرائع المدافعين عنها. وسيكون لنتائج الحرب فيها بلا شك انعكاسات كثيرة وخطيرة في العالم عامة، وفي أوروبا وفي سوريا وحولها بخاصة.
Be the first to write a comment.