أتأمل السيد “قيس سعيّد” وأتعجب، كيف استطاع هذا الرجل عديم الخبرة السياسية أن يتمّ مشروعه، رغم أنه لا يملك براميل متفجرة كبشار، ولا جيشا مسلحا كسيسي، ولا بلده فيها قوات دعم سريع مع مجلس عسكري خبيث كالسودان، ولا تركيبة قبلية معقدة مع تدخل عسكري خارجي كاليمن، ولا ثروات بترولية مع تآمر دولي إقليمي كليبيا..

بل إن الظرف الدولي والإقليمي لم يكن في صالحه في كثير من الأوقات..

كما أن أداءه هو شخصيا خلال فترة انقلابه كان في الحضيض، لقد تأخر في إتمام خطوات انقلابه شهورا، فلم يشكل الحكومة المزعومة إلا بعد “طلوع الروح”، ولم يجد أي شخصية سياسية لها أي وزن تقبل الانضمام له في مغامراته المضحكة المبكية، وخسر الغالبية العظمى من حلفائه الذين أيدوه في بداية انقلابه، والمشاكل الاقتصادية التي يزعم أنه سيحلها تتفاقم كل يوم بما يهدد أسس الاقتصاد التونسي..

عوراته تزداد انكشافا فجا يوما بعد يوم.. فضائحه تظهر للإعلام من خلال المسؤولين الذي يتركونه، ومن خلال مراقبته ومراقبة تصرفاته الحمقاء التي لا تكاد تتوقف..برغم كل ما سبق تمكن هذا الرجل من الوصول إلى المرحلة الأخيرة من انقلابه، وأقر دستور تونسي جديد هو عبارة عن “مسخرة” في عالم السياسة، وأصبح الأمر الواقع الذي تعيشه البلاد هو الخضوع لحكم هذا الكائن السخيف، والذي يحكم بصلاحيات مطلقة، بعد تزوير فج، بدستور كتبه هو، بطريقة أهان فيها الشعب التونسي كله.. أهان بها حتى “ترزية القوانين والدساتير” الذين ساعدوه لإتمام مشروع الدستور المزعوم..

كيف استطاع “سعيّد” أن يصل بمشروعه المتهافت إلى هذه المحطة؟

الأمر واضح.. برغم عدم امتلاكه لمقومات الزعامة، وبرغم عدم امتلاكه لأدوات القوة الخشنة، إلا أنه راهن على تفكك وتفتت الجماعة الوطنية التونسية، وقد ربح رهانه..

*

ما أسهل انقضاض الديكتاتور -أي ديكتاتور- على أي تجربة ديمقراطية وليدة إذا تمكن من تفتيت الجماعة الوطنية التي ترعى بذرة هذه التجربة..

وما أصعب إفشال التجارب الديمقراطية إذا توحدت الجماعة الوطنية، واصطفت خلف المبادئ الكبرى، واجتمعت على المشتركات الإنسانية والوطنية.

لقد مرّت “تشيلي” بتجربة انقلاب عسكري، وكانت تجربة من أعنف التجارب التاريخية، حيث قتل رئيس الجمهورية المنتخب ديمقراطيا “إييندي”، واستولى الجنرال “بينوشيه” على الحكم، في أيلول/ سبتمبر 1973م.وظلت المعارضة التشيلية تتصارع، كل فريق يتهم الآخر بالتسبب في الانقلاب، أنصار الرئيس المقتول يقولون لمعارضي الرئيس “أنتم من دعمتم العسكر وأتيتم بهم للحكم، وها هم قد استخدموكم، ثم رموكم، وحلوا أحزابكم، وصادروا أموالكم، وسجنوا كوادركم”..

ويرد الآخرون بقولهم: “بل رئيسكم هو الذي تسبب في الانقلاب، ولا تنسوا أن الجنرال المنقلب قد حصل على أعلى الأوسمة من رئيسكم، وفي النهاية انقلب عليه، كما أن رئيسكم اتخذ إجراءات اقتصادية مرعبة، ولم يترك لنا حلا سوى التحالف مع العسكر”..

ويرد الآخرون: “كان بإمكانكم انتظار الانتخابات”، ويجيب الآخرون: “نحن لم نكن ننوي إلا المواجهة بالانتخابات”..

وهكذا.. استمر هذا التراشق سنوات وسنوات.. كل ذلك والديكتاتور يرسخ حكمه أكثر وأكثر.

*

حين توحدت المعارضة الوطنية التشيلية، تمكنت من هزيمة “بينوشيه”، وربحت استفتاء يجبر الديكتاتور على إجراء انتخابات رئاسية.. وكان ذلك اختبارا آخر للمعارضة التشيلية، من ينبغي أن يترشح؟

في تلك اللحظة اختارت المعارضة التشيلية أن تحافظ على وحدتها، اصطفت خلف مرشح واحد، وبرغم وجود عدة أسماء لها حظوظ وافرة في الفوز، إلا أن المصلحة الوطنية كانت هي المحرك الأساسي، وتنازل بعض المرشحين الأكثر حظا، لصالح المرشح “المناسب” لتلك اللحظة التاريخية، وبفضل هذه التضحية الوطنية اتفقت المعارضة التشيلية على مرشح واحد..

وبعد أن ربح هذا المرشح.. استمرت المعارضة التشيلية في وقوفها خلفه، وحين انتهت مدته الرئاسية بعد أربع سنوات، قدمت المعارضة التشيلية مرشحا جديدا، واستمرت في دعمه..

لقد تمكنت المعارضة التشيلية من المحافظة على وحدتها -رغم الخلافات الجسيمة بينها- لمدة عشرين عاما متواصلة، واستمرت في الفوز بالانتخابات الرئاسية عشرين سنة، وخلال تلك السنوات أجرت المعارضة التشيلية تعديلات دستورية فارقة، وإصلاحات اقتصادية كبيرة، وغيرت من تركيبة الدولة، فقلصت دور العسكر، وأجبرت المؤسسة العسكرية على الخضوع لرقابة البرلمان.

*

بعد أكثر من عشرين عاما من توحيد الجماعة الوطنية التشيلية.. خسرت الانتخابات الرئاسية، ولكن ذلك لم يكن حدثا فارقا، لأن التجربة الديمقراطية نفسها كانت قد ترسخت، وأصبحت المؤسسات أقوى من أي رئيس، وأصبحت الدولة قاردة على حماية نفسها من أي مخبول يصل إلى السلطة، بل إن أي رئيس يصل إلى السلطة لا يخطر في باله أصلا أن يخطف البلاد والعباد إلى المجهول.

إن الفارق الأكبر بين تجارب التحول الديمقراطي الناجحة وبين التجارب المتعثرة الفاشلة، هو القدرة على توحيد الجماعة الوطنية توحيدا حقيقيا راسخا حول مشترك وطني، على أن تستمر هذه الوحدة لفترة طويلة، فترة طويلة جدا، لا تقل عن عشر سنوات مثلا.

توحيد الجماعة الوطنية ينبغي أن يكون هدف جميع العاملين في حقل السياسة الذين يهدفون إلى التغيير السلمي في بلادنا العربية، ذلك أنه دون اصطفاف حقيقي، عبر اتفاق سياسي واضح، يمكن أن يكون أساسا مستمرا لعلاقة طويلة الأمد، تصمد أمام تحديات الانتخابات، والانقلابات، والتدخلات الإقليمية والدولية.. لن يحدث أي تغيير، ولن ينجح أي تحول، وسنظل في دائرة مفرغة من الانقلابات العسكرية التي تتم تحت غطاء جماهيري ما، وبدعم إقليمي معروف الأهداف، وبرضى أو سكوت أو تواطؤ دولي صهيوني الهوى..

*

أقول لكل الذين يشاهدون هذا القابع في قصر قرطاج.. كلما رأيتموه يخطب، وكلما تساءلتم “كيف استطاع هذا إنجاح مشروعه غير المنطقي الذي يسبح ضد التاريخ؟”، تذكروا أنه لولا تفرق الجماعة الوطنية.. لما تجرأ على إعلان مشروعه من الأساس..

عربي ٢١