يصدّق الواقع شعارات الإمام الخميني “الموت لأميركا والموت لإسرائيل”، فمنذ وصوله إلى طهران، احتل أنصاره السفارة الأميركية، وأغلق سفارة إسرائيل ومنحها لمنظمة التحرير الفلسطينية. بعد 42 عاماً لا تزال ثورته ترفع الشعارات ذاتها، وفي حال صراعٍ معهما كلفها حصاراً لا يزال قائماً، وحروباً ساخنة حيناً وأخرى باردة أحياناً، كذلك يتحدّى الواقع تلك الشعارات أو يكذّبها، فتبدو ثورة في سنّ اليأس. في الأسبوع الماضي، حشد نظام الثورة جمهوره وأوصل رسالةً واضحة، هزمت الثورة المضادّة، ولا يزال الشارع معنا، يردّد “الموت لأميركا والموت لإسرائيل”، وكأن الخميني وصل للتوّ من باريس.

بعيداً عن طهران، وفي “ساحات الصراع”، حسب تعبير الحرس الثوري، كانت الصورة مختلفة، يتحوّل فيها العداء إلى تعاون. في الواقع، يحكم الحرس الثوري العراق ولبنان بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وها هو حزب الله ينجح في اتفاق كاريش النفطي في المفاوضات “غير المباشرة ” (هذه مثل المحلّل في الطلاق البائن). وللمرة الأولى، وبتواطؤ حزب الله، صارت دولة العدو مصدّرة يوم أمس الأربعاء للنفط، ومن حقل كاريش المسروق من الفلسطينيين.

وهكذا منحت إسرائيل شريان حياة جديداً على وقع الهتاف “الموت لإسرائيل”، ولم يكن شعار “الموت لأميركا”، الشيطان الأكبر، أحسن حالاً، إذ أرسلت طهران “محلّلاً” آخر إلى واشنطن للتفاوض مع الشيطان الأكبر حتى لا يقطع تمويله عن الحرس الثوري وساحات الصراع. كان وزير خارجية العراق، فؤاد حسين، يفاوض حتى لا يقطع شريان تمويل الحرس الثوري من خلال سرقة موارد العراق المالية، فـ”الكاش” الأميركي يتدفق إلى العراق، وبسلاسة يتسرّب إلى خزائن الحرس الثوري في إيران، ويظهر في “ساحات الصراع مع العدو” من البرنامج النووي في إيران إلى الحوثي في اليمن إلى حزب الله في لبنان وما بينهم. هذا ما كاشف فيه المبعوث الأميركي، ماكغروك، رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في زيارته بغداد قبل نحو شهر، مبرّراً خفض التدفق من نحو 350 مليون دولار يومياً إلى ثلاثين مليون دولار نقداً وثلاثين مليوناً على شكل حوالات. وهو ما سبّب تداعي الانهيارات من الدينار العراقي إلى التومان الإيراني، وصولاً إلى الليرتين اللبنانية والسورية.

يصعب الوصول إلى رقم دقيق حول كم موّلت أميركا الحرس الثوري على مدى عقدين منذ احتلالها العراق، فلا توجد وثائق رسمية للفاسدين ومهرّبي الأموال وغاسليها. المؤكد أن “الشيطان الأكبر” كان يعلم ويغضّ بصرَه، ويفضل الستر على قذف المحصَنات من حلفائه. يمكن، في المقابل، تقدير حجم المبالغ التي سُرقت من الشعب العراقي، وكيف ذهبت معظم موارده إلى مشاريع إيران وجيوب حلفائها من السياسيين الفاسدين. دخل العراق أكثر من ثلاثة ترليونات دولار خلال عقدين، شهدا ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار النفط. صحيحٌ أن البلد تربّع على عرش معدلات الفساد عالمياً، إلا أنه، في المقابل، لم يشهد أي مشاريع بنية تحتية تُذكر ولا بناء مؤسسات الدولة.

كيف جرت عملية النهب؟ يصدّر العراق أربعة ملايين برميل نفط يومياً بمعدّل سعر النفط 80 دولاراً للبرميل، يحوّل الأميركان نقداً ونقلاً بالطائرات 350 مليون دولار يومياً، ما يقدّر سنوياً بسبعة مليارات. السبب أن العراق لا يزال تحت عقوبات الأمم المتحدة، حماية له من قضايا التعويض التي رفعت عليه بعد غزو الكويت. منذ شهر تقريبا، أغلق الصنبور وصار الدفع بالقطّارة.

تبدو مهمة الوفد العراقي برئاسة وزير الخارجية فؤاد حسين في واشنطن، التي وصل إليها الأربعاء صعبة، مع أن إيران قدمت وجوهاً “أميركية” أو مقبولة عند الأميركيين. وبحسب مسؤولين عراقيين، يسعى الوفد لمهلة ستة أشهر حتى ترتيب الأوضاع. ويحاول إقناع واشنطن بتقديم تسهيلات بشأن التعامل بالدولار وتأجيل العمل بالمنصة الإلكترونية لبيع الدولار التي فرضتها الولايات المتحدة على العراق، وهي تتلخص بمراقبة واشنطن الجهات الحاصلة على الدولار، وسبب حصولها وطبيعة أنشطتها، إلى جانب أنها تفرض على البنك المركزي العراقي إجراء التحويلات (الدفع) للجهات التي يشتري منها التّجار والشركات العراقية المختلفة، دون أن يحصل التاجر أو الشركة على المبلغ نقداً.

كتب جون هانا، مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس الأسبق ديك تشيني، وجويل رايبورن مدير المركز الأميركي لدراسات المشرق، الذي شغل منصب المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية خلال إدارة ترامب، مقالاً مشتركاً في “واشنطن إكسمنر”، طالباً فيه بوضوح إدراة بايدن “بأن تغلق آذانها” لمطالب المسؤولين العراقيين، فهم لأكثر من عقد “أساؤوا استخدام وصولهم السهل إلى الدولار الأميركي للسرقة من شعبهم على نطاق تاريخي. والأكثر خطورة من ذلك، تواطأت الحكومات العراقية المتعاقبة مع الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، للالتفاف على العقوبات الأميركية، وتحويل المليارات لتمويل برنامج إيران النووي والإرهاب والعدوان الإقليمي. وإلى أن يقمع العراق هذه الأنشطة، على واشنطن أن ترفض أي تواطؤ آخر فيما قد يكون أكبر مخطّط لغسل الأموال في العالم، وهو مخطّط يعرّض النظام المالي الأميركي وحياة الأميركيين للخطر”، واصفاً ما يجري في المصرف المركزي العراقي بأنّ “في قلب عملية الاحتيال، هناك آلية يديرها البنك المركزي العراقي تعرف باسم “مزاد الدولار”. والمزاد عملية بدأتها الولايات المتحدة في عام 2004 للسماح للمصارف العراقية بالوصول إلى الدولار بأسعار مفضلة لتمويل الواردات التي تشتدّ الحاجة إليها. تأتي الدولارات من حساب عراقي في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، يتم من خلاله توجيه عائدات النفط الكبيرة للعراق”.

لا يقول الكاتب الذي كان مستشار ديك تشيني للأمن القومي إن هذه العملية بدأت في عهد تشيني الذي كان الرئيس الفعلي في عهد بوش الابن، وإن أميركا فضلت التعامل مع الشيطان الإيراني على التعامل مع صدّام حسين، وفضلته على “داعش” لاحقاً. بعيداً عن نظريات المؤامرة، سبّب التحالف الإيراني الأميركي في العراق ولادة “داعش”، وعندما كبر هذا التنظيم إلى درجة تشكّل تهديداً حيوياً لمصالح البلدين، تحالفا وقضيا عليه. كانا، قاسم سليماني والحشد الشعبي، يقاتلان على الأرض والتحالف الأميركي الدولي في الجو ومعهم الأكراد، سواء في العراق أو سورية.

من خلال “المفاوضات غير المباشرة” بين إيران والشيطان الأكبر، جاء نوري المالكي رئيساً للوزراء أول مرّة، وثبتته القوات الأميركية، رغم أنه خسر أكثريته البرلمانية أمام القائمة العراقية التي كان يقودها رجل الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه)، إياد علاوي. وفضلت رجل إيران عليه. وهذا ما تكرّر مع العبادي وعادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي ومحمد شياع السوداني أخيراً.

بعد أربعة عقود من الثورة الإسلامية، تحطّمت الشعارات على صخرة الواقع، ليست شعارات الخميني وحده، شعارات المحافظين الجدد الذين احتلوا العراق لنشر الديموقراطية. ما هو أسوأ من العجز عن تحقيق الشعار هو العمل عكسه، فلا شيء يبرّر سلب موارد العراق، فعلى عين إيران، كشف العام الماضي عن سرقة القرن نحو ثلاثة مليار دولار من أموال الضريبة. وأفرج بالكفالة عن المتهم الرئيسي، نور زهير، بأمر القضاء العراقي، ليواصل حياته في دبي.

يعلم الأميركان حال القضاء في العراق، وحجم الفساد المالي ونهب موارد البلاد من جماعة إيران، يقبلون ذلك ويواصلون رفع شعارات النزاهة والشفافية والديمقراطية، ويتضامنون، في الأثناء، مع النساء الإيرانيات. ليس كذباً ولا نفاقاً، فهم يكرهون نظام الملالي، لكنهم واقعيون يتعاملون معه، ولا يريدون تكرار خطئهم في العراق وأفغانستان.

قد يكون ثمن عودة الدولار إلى جيوب الحرس الثوري استمرار تدفق الدولار لجيوب الخزينة الإسرائيلية من حقل كاريش بحراسة الحرس الثوري. وهذا لا يمنع من غارات إسرائيلية في قلب طهران ومواصلة حرث القوافل الإيرانية في سورية. وتلويح نتنياهو الدائم بالحرب على إيران.

العربي الجديد