تحل هذه الأيام الذكرى 34 لاغتيال القائد الفلسطيني الكبير خليل الوزير والشعب الفلسطيني يكابد في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة والمتواصلة على المسجد الأقصى وعلى الكثير من أبنائه في الضفة الغربية.

استحضار شخصية مثل (أبو جهاد) الذي اغتالته فرقة إسرائيلية في بيته في ضاحية سيدي أبو سعيد في تونس في 17 أبريل/ نيسان 1988 تأتي من كونه الرجل الذي استثمر أكثر من غيره في تصليب عود المقاومة داخل الأراضي المحتلة حتى أثمرت تلك الانتفاضة نهاية عام 1987 ما دعا إسرائيل للتخلص منه بعد أن رأت فيها “مهندس” الكثير مما جرى.

في كتابه الجميل “مقيمون في الذاكرة” الصادر عام 2012 عن دار “المدى”، تحدث عن الشهيد خليل الوزير الراحلُ اللبناني الكبير هاني فحص، الذي كان توليفة رائعة بين الدين والفكر والأدب، وهو من عاش التجربة الفلسطينية في لبنان كما لم يعشها أحد بذلك التميز، فقال “أبو جهاد وردة رائحته تسبق لونه، كان يفكّر في البعيد والقريب بينما كان البعض يفكر بالمباشر فقط، كان يتحيّن الفرصة للاستفادة من أي شيء، كان يفكر أن يزرع ولا يهتم بمن سيحصد (..) كان أبو جهاد براغماتيا فلسطينيا، كل شيء عنده يعود إلى فلسطين، ولكن هذا لا يعني أنه ليس مرنا بل هو كان غاية في المرونة”.

ويضيف هاني فحص بأن “(فتح) هي مكان مشترك بين كل التجارب والذاكرات الفلسطينية والثورية الإنسانية بما فيها حرب الشعب الطويلة الأمد التي التقطها أبو جهاد من تجارب الأمم الأخرى والتي فيها تكون الحركات الثورية طليعية، لكنها طليعية غير منفصلة بل مندمجة بالشعب”. وكأن فحص الذي توفي عام 2014 يتابع حاليا هذه اللحظة التاريخية التي يعود فيها الجدل القديم الجديد عن العلاقة بين السياسة والمقاومة في الساحة الفلسطينية فيكتب “هذا الجدل لا يتعطل ففي فترات معينة يظهر المشهد السياسي لكنه يكون قائما على المقاومة، أو أسبابه نضالية، أو يكون فيه بعد للمقاومة غير ظاهر. وعندما تأتي الظروف وتتعقد العملية السياسية يتراجع المشهد السياسي ويظهر المشهد المقاوم المباشر. وهذا لا يعني أن البعد السياسي غاب وانتهى، وهذا المشهد النضالي هو أيضا قائم على معادلة سياسية (..) وهنا أهمية الجمع بين الرؤى وهذه هي أهمية حركة (فتح)”.

المعضلة اليوم في الساحة الفلسطينية مزدوجة فحركة “فتح” التي كانت تجيد تماما هذه اللعبة، بل وتبدع فيها أحيانا، لم تعد تمارسها تقريبا، إما لغياب القدرة أو غياب الرغبة أو كليهما، كما أن طينة القيادات عندها تغيّرت فلم نعد نشهد قامات قادرة على التأثير في الأحداث وتوجيهها بتلك المهارة التي كانت تجمع بين “البيض والحجر”.

الغضب الفلسطيني المتنامي هذه الأيام بسبب تصاعد وتيرة ونوعية الاعتداءات الإسرائيلية لحظة كانت تستوجب من القيادة حسن توظيفها واستثمارها لإعادة الألق والصدارة لمقاومة الاحتلال بعد أن تراجعت القضية كثيرا في السنوات الماضية ليس فقط بسبب حالة الانقسام البائسة بل أيضا بسبب حالة المراوحة، وأحيانا الضياع، بين خياري التسوية والمقاومة حتى بمعنى المقاومة الشعبية التي يقع التأكيد عليها كثيرا لكنها عمليا لا تحظى برعاية أو توجيه.

تبدو القيادة الفلسطينية للأسف وكأنها استمرأت الحديث الدائم عن ضرورة “التهدئة” وتدخل المجتمع الدولي، والإدارة الأمريكية تحديدا، لوقف الممارسات الإسرائيلية مع تكرار طلب “الحماية الدولية” مع أنها تعلم تماما أن ذلك لن يحدث وأن لا أحد سيهب لنجدة الفلسطينيين طالما أن هؤلاء لم يفرضوا على الأرض وضعا يثير خوفا حقيقيا من مزيد التوسع واحتمال خروجه عن السيطرة مع كل التداعيات المصاحبة.

ما يزيد الوضع تعقيدا أن الفلسطينيين يتحركون الآن دون حاضنة عربية أو إسلامية تقريبا، بل وفي مناخ من أسوأ ما يكون حين ترى دولا عربية وازنة لم تعد تكتفي بعدم مد يد المساعدة بل وتضع اليد في اليد مع دولة الاحتلال والمضي في نهج تطبيع معه أسرع وأوقح من أي منطق، مع شيطنة كاملة منها لحركات المقاومة الإسلامية ومحاولات لا تكل لتشويهها.

يتم استحضار الشهيد أبو جهاد في لحظة “فقر شديدة” لقيادات قادرة أن تكون في مستوى اللحظة التاريخية ومستوى ما يبديه هذا الشعب من إصرار على المقاومة رغم خذلان القريب والبعيد. كانت الساحة الفلسطينية تعج بالقيادات الوازنة التي تحيط بالزعيم الشهيد ياسر عرفات، سواء من فصيله أو من بقية الفصائل المعارضة ولكننا اليوم لم نعد نرى نماذج من هذا القبيل.

صحيح أن الأوضاع تغيرت بالكامل وأن السياق العربي والدولي كله لم يعد هو نفسه وأن الحنين لفترة ولّت وانقضت لا يقدم ولا يؤخر، ولكن ما لم يتغير أبدا، بل وازداد سوءا على سوء، هو وضع الاحتلال الإسرائيلي وازدياد شراسته ومع ذلك لا نرى إلا قيادات تدير التعايش معه عوض التخطيط للاشتباك لوضع حد لاحتلال استمر عقودا ولن ينتهي من تلقاء نفسه طبعا.