ذهب كثير من التوقعات إلى أن يحيى السنوار سيكون الشخص صاحب التأثير الأوسع في اختيار خليفة الشهيد إسماعيل هنية في قيادة المكتب السياسي لحركة حماس، حتى أنه سيكون صاحب الكلمة الأخيرة، وبقيت مسألة أن يتولى هذا الموقع تدخل في أمنيات البعض، من غير أن تشكل خيارا محتملا في ظل تفاعلات المشهد العام في قطاع غزة وصداها العالمي، والصورة التي تشكلت حول السنوار، وكان يحرص على تغذيتها، بوصفه الأكثر تشددا في قيادات الحركة. وبعد أيام من الترقب، أغدقت خلالها التحليلات والقراءات، يأتي السنوار إلى الموقع ليحمل ذلك الكثير من الدلالات، فالحركة تسحب بعض أوراقها الخارجية، ومنها العلاقة المتشابكة والمعقدة مع تنظيم الإخوان المسلمين، وشبكة تحالفاته العالمية، لتعود إلى مربع المقاومة بصورة أساسية، في ما يبدو مؤشرا لحالة الإحباط من الوصول إلى وقف لإطلاق النار، يمكّن الحركة وسكان القطاع من استجماع أنفسهم.
يمكن فهم التحول الذي يحدثه تولي السنوار لرئاسة المكتب السياسي للحركة، من خلال قراءة دور إسماعيل هنية، وشخصيته التي كان لها دور كبير في تصعيده لرئاسة الحكومة الفلسطينية المنتخبة 2006 ولقيادة المكتب السياسي لحركة حماس 2007، فالرجل هادئ ومنضبط في تصريحاته، خاصة المتعلقة بالدول العربية، التي تعاملت طويلا مع الحركة ضمن ملفاتها السياسية والأمنية، ومنها الأردن ومصر وسوريا.
هنية مثل السنوار من أبناء قطاع غزة، الذي شهد تصاعد المقاومة المسلحة للاحتلال، ويعرف طريقة تفكير أهاليه ومشكلاتهم من المعايشة، لا الوصف أو النقل، وموقعه القريب من الشيخ أحمد ياسين لسنوات أضفى عليه مسحة أبوية كانت تجعله على مسافة واحدة من الجميع، وكانت هذه المسألة ضرورية لضبط العلاقة بين المكتب السياسي وكتائب عز الدين القسام، بما يخلق مساحة مهمة للمناورة، فالمقاتلون على الأرض لم يكونوا معنيين بعلاقة الحركة مع سوريا، أو إيران، والأولوية للطرف الذي يمكن أن يقدم خدمة ميدانية منتجة لأوضاعهم وخياراتهم الداخلية، ولذلك شهدت العلاقات مع الجانب المصري انفتاحا كبيرا بعد عملية «سيف القدس» في 2021، لتسمح الحركة بوجود يافطات كبيرة تشكر الرئيس المصري وتشيد به في القطاع، كما تقدمت مصر بحزمة مساعدات لإعادة الإعمار في ذلك الوقت، ويبدو أن القاهرة بدأت تدرك أهمية غزة على مستوى هندسة علاقاتها الدولية، خاصة مع الأمريكيين، ولكن العلاقات بقيت بعيدة للغاية عما كانت عليه أثناء مرحلة الرئيس حسني مبارك، ووجدت القاهرة صعوبة في إحداث تقارب فعلي بعد التضييق على الأنفاق، التي استغلت من جانبها لسنوات طويلة من أجل الإبقاء على ورقة قطاع غزة في خدمة تأثيرها الإقليمي. بقيت العلاقة بين السياسي والميداني مدروسة وفاعلة مع إسماعيل هنية، فالمقاتلون الذين يدفعون التضحيات المستمرة هم من يضعون حدود الأفق التفاوضي للخارج، وليس لديهم ما يبرر أن يدفعوا تضحيات مجانية يجري تبديدها على طاولة المفاوضات، كما أنهم يمتلكون ورقة الحضور من خلال علاقتهم بالمخابرات المصرية، وحاجتهم المستمرة للتنسيق معها حتى لو كان السقف الذي تضعه القاهرة متواضعا قياسا بما عرفته الحركة في السابق.
مع السنوار تتلاشى هذه الهوامش، وتصبح الحركة كتلة واحدة تتركز في القطاع، وتوضع أمام السنوار مجموعة من الملفات، التي تبدو متناقضة، فالواضح أن تعويله على إيران كبير، وأنه يتصور الحرب الإقليمية بوصفها مسارا طبيعيا لما يحدث في غزة، ولكنه في الوقت نفسه، يتجه لدخول علاقة مضطربة مع المصريين، الذين لن يفرطوا في ورقة تأثيرهم على القطاع، وعلى أطراف دور تفاوضي مسألة حيوية بالنسبة لهم، ولديهم في الوقت ذاته، تأثير على بعض الأطراف داخل الحركة، الذين يمتلكون علاقات جيدة معها، ويرون أن دورها حاسم في المدى البعيد نظرا للارتباط العضوي مع المصريين من خلال الواقع الجغرافي. وسطاء المفاوضات يمتلكون دورا مهما في المسعى (السيزيفي) لوقف الحرب، وهي الوضعية التي تتيح للحركة أن تحتفظ بدور (ما) داخل القطاع مستقبلا، للإبقاء على التوازن الضروري الذي يمكنه الحيلولة دون تحويل غزة إلى فضاء صامت، من غير أي دور استراتيجي، وبحيث تدخل بصورة سلبية في ملفات التسوية المحتملة، مع نسخة جديدة من صفقة القرن، ربما يعود بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد أشهر من اليوم، ولا تبدو علاقة السنوار في أفضل أحوالها مع أطراف الوساطة، وفي المقابل، يعرف نتنياهو أن عليه مواصلة الركض في الفراغ من أجل الوصول إلى باب الخروج من مأزقه الشخصي والسياسي.
من الواضح أن السنوار يجيد التعامل مع الميدان وتحدياته، وعملية «طوفان الأقصى» حققت نجاحا تجاوز المتوقع من الناحية العسكرية، وما زال يقود العمليات من الأنفاق بكفاءة، قياسا بالإمكانيات المتوفرة للحركة مقابل العدو، إلا أن الانتقال إلى مرحلة التهدئة مع السنوار سيواجه مشكلات كثيرة، لأنها ستكون الفترة الكثيفة بالمفاوضات من أجل التوصل إلى تسويات طويلة المدى. انتخاب السنوار رسالة من الحركة تعبر عن إحباطها ويأسها الكامل من الوضع الراهن، وقناعتها بأن التلاعب في المناطق الرمادية للتقاسم في الإقليم لن يجعل من غزة، بل وكامل مشروع الدولة الفلسطينية، سوى موضوع هامشي وتفصيلي داخل صورة معقدة، وبما يجعل من المتعذر تحقيق العائد المنتظر في الحد الأدنى من قبل الشعب الفلسطيني بعد عقود من المعاناة. اغتيال هنية ليس عملا جبانا وحسب، ولكنه يتصف بالخبث، فالرجل كان رمانة الميزان بين أوجه عدة لحركة حماس، ودوره كان مرشحا لإحداث مجموعة من الاختراقات السياسية والدبلوماسية، خاصة بعد إعلان بكين الضروري، تمهيدا لمرحلة تتمثل في مواجهة احتمالات تسويات طموحة بالنسبة للعالم، ومليئة بالغبن للفلسطينيين وهو ما ليس جديدا عليهم.
القدس العربي
Be the first to write a comment.