ساعات طويلة فصلت بين إختتام القمة العربية الطارئة التي انعقدت في القاهرة، وبين الخطاب السنوي الذي ألقاه الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الكونغرس، والذي لم يأت فيه على ذكر قرار الاجماع العربي الأول من نوعه، حول فلسطين…إما سهواً، وإما لامبالاة، وإما اطمئناناً الى ان القمة التي وجه عدد من خطبائها تحياتهم له وتقديرا لجهوده من أجل السلام، تمضي في المسار الصحيح، من دون الحاجة الى تأنيب أو توبيخ أو تهديد يشبه ذاك الذي تعرض له الرئيس الاوكراني فولودمير زيلنسكي في البيت الأبيض الأسبوع الماضي.
كان من حظ القمة العربية أنها نجت من لسان ترامب السليط واسلوبه السوقي، وربما أيضا من اقتراحه الجنوني بإخلاء قطاع غزة من سكانه. ولم توفر للرئيس الأميركي حجة لتضمين خطابه السنوي المخصص عادة للشؤون الداخلية الأميركية أي إشارة خاصة الى أفكاره الخرقاء لمعالجة القضية الفلسطينية بإزالة الشعب الفلسطيني من الوجود. وهكذا يبدو أن القمة خرجت من مرمى نيران ترامب بأقل قدر من الخسائر والاضرار، وبأقصى قدر ممكن من التجاوب مع إنذاراته وعلاجاته التي أصبحت خطة عربية رسمية، تعادل ما هو مقترح على أوكرانيا ورئيسها!
الخطة هي في المقام الأول خلاصة أفكار طرحت منذ اليوم الأول لشروع إسرائيل في اليوم التالي لهجوم طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول العام 2023، في تنفيذ قرار محو قطاع غزة وسكانه من الوجود. كان البديل الوحيد يومها لذلك الخيار الإسرائيلي، هو ان تعود مصر الى إدارة قطاع غزة، كما قبل العام 1967، وأن تتولى دولة الامارات تمويل تلك المهمة، الهادفة في النهاية الى تصفية حركة حماس تماماً، والى إعادة تأسيس السلطة الفلسطينية لتقوم بالمحافظة على هوية القطاع وأهله.
الخطة العربية المستحدثة والمصاغة على عجل، بمثابة رد عاجل على الصدمة التي أحدثها ترامب عندما إقترح اخلاء غزة بالكامل من السكان، كسبيل وحيد لوقف عملية الإبادة الجماعية، المستمرة حتى الان: يتولى العرب رعاية الوضع الفلسطيني، بحيث يصار الى جعل قطاع غزة خاليا من حركة حماس ( بدلاً من ان يكون خالياً من السكان) مع ما يقتضيه ذلك من تغييرات وتعديلات واصلاحات على مؤسسات السلطة الفلسطينية، من الرئاسة الى منظمة التحرير الى حركة فتح.
وللدلالة على حسن النوايا العربية، لم يتردد الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الإعلان عن أولى الخطوات الإصلاحية المطلوبة منذ زمن بعيد، وهي قراره تعيين نائب للرئيس ونائب لرئيس المنظمة، والعفو عن المفصولين من حركة فتح، لا سيما منهم محمد دحلان الذي يرجح ان يتولى رئاسة اللجنة المكلفة بتنفيذ خطة التعافي المبكر في قطاع غزة، وأن يشغل في مراحل لاحقة مناصب رفيعة في السلطة والمنظمة والحركة.. إذا مضت الأمور على ما يرام، واذا تطورت الخطة المصرية الإماراتية لاعادة احياء قطاع غزة من تحت الركام على النحو المتداول منذ بدء الحرب.
تلك هي خطة “اليوم التالي”، التي استغرقت وقتاً طويلاً، والكثير من الدماء والدموع، حتى ظهرت تحت سيف مشروع الإبادة الإسرائيلي، وخطر الافناء الأميركي للشعب الفلسطيني، لتشهد على واحدة من أهم عمليات “تداول” السلطة الفلسطينية، المتعثرة منذ عقدين من الزمن، حسبما جاهر الرئيس عباس في خطابه أمام قمة القاهرة، ورمى المسؤولية على الاشقاء العرب في إعادة انتاج المؤسسات الوطنية الفلسطينية.. وأعاد القضية برمتها الى المربع العربي الأول، الذي كان في الأصل أحد مصادر تشكيلها، ولو اختلفت التسميات والعناوين العربية.
الخطة العربية، هي النتاج الطبيعي للحرب والمخرج الوحيد من الهزيمة المطلقة، التي تعترف بها حركة حماس نفسها اكثر مما تعترف بها سلطة محمود عباس..التي قدمت في القاهرة خطاب نعي لحقبة “القرار الوطني الفلسطيني المستقل”، التي امتدت على مدى نحو ستين عاماً من الشقاء.
Be the first to write a comment.