في مناسبتَين معلنتَين على الأقل، زيارة قبر والده والمشاركة في تشييع محامي الأسرة فريد الديب، خلال الشهر المنصرم تشرين الأول (أكتوبر)، سمع جمال حسني مبارك هذه الهتافات، وسواها: «ما يتعوضتش»، «الدولار كان بكام، والنهار ده بكام»، «ربنا ينتقم منهم»، «ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين»، «هو جمال إن شاء الله بإذن الله»، «حبيب الشعب كله، وأبوه»، «يا رب ترجع أيامكم»… ليس عسيرا، بالطبع، أن يجري استئجار أنفار هنا وهناك، وظيفتها إطلاق هذه الهتافات وإشاعة أجواء احتفاء بنجل الرئيس المصري الذي أطاحت به انتفاضة شعب مصر في كانون الثاني (يناير) 2011، وكانت مشاريع توريثه وفساده ومفاسده مع شقيقه علاء أحد أبرز أسباب الانتفاضة.

لا يصح أن يكون عسيرا، في المقابل، ألا تُستخلص عبرة جوهرية من وراء ما سمعه ويسمعه مبارك الابن اليوم من عبارات التهليل والترئيس، مفادها إعلاء راية الاعتراض على نظام عبد الفتاح السيسي أكثر بكثير من الحنين إلى نظام مبارك، من جهة أولى؛ وأن الأمر بأسره يبدو أقرب، من جهة ثانية، إلى مختبر تجريبي يتلمس تحالفات موشكة، أو في طريق الصياغة الابتدائية؛ بصدد سيناريوهات استبدال مكونات سلطة السيسي الراهنة، في الجيش ومؤسساته الاقتصادية وشركاته الاستثمارية، وفي أجهزة المخابرات واستطالاتها الداخلية والخارجية.

والأرجح أن أول الخيوط خلف تلك السيناريوهات ليست ما يُشاع عن عتبات تعاون، أو حتى تنسيق فعلي وميداني، بين جماعة الإخوان المصرية وآل مبارك والشركاء وأصحاب المصلحة في استعادة نظام مبارك؛ أو بين مجموعة مبارك الابن وأمثال سامي عنان، وهذا الضابط الكبير أو ذاك. مرجح، هنا أيضا، أن الخيط الأهم جاء عبر وساطة دولة الإمارات، والشيخ محمد بن زايد شخصيا، لدى السيسي كي يسمح لكل من جمال وعلاء بالسفر إلى أبو ظبي وتقديم العزاء في وفاة الشيخ خليفة بن زايد. ذلك لأن الواجب لم يقتصر على التعزية وحدها، بل على تهنئة بن زايد بتوليه رئاسة الإمارات، في غمرة جفاء إماراتي ـ سعودي غير معلَن تجاه السيسي، ألمح إليه الأخير في خطبة ألقاها خلال مؤتمر الاقتصاد الأخير.

سلسلة الانتصارات القضائية، التي أحرزتها أسرة مبارك منذ شباط (فبراير) الماضي، على أصعدة مصرية أو سويسرية أو اتحادية أوروبية، قد لا تكون جزءا من عمليات إعادة التأهيل داخل المختبر إياه؛ ولكن يصعب ألا تكون عنصرا بالغ التأثير، بل حاسم الفعل أيضا، من زاوية أنها أفرجت قانونيا عن مليارات كانت مجمدة أو خارجة عن معادلات صياغة النفوذ وبناء شبكات الولاء ورفع الصوت الصارخ بـ«يا رب ترجع أيامكم». صحيح، ومؤكد بدرجة إطلاق عالية، أن مليارات آل مبارك التي نُهبت وكُدست على مدى عقود لن تعود إلى خزائن مصر الدولة ومصر التنمية ومصر الجنيه الهابط أسفل سافلين، وليس إلى سواد شعب مصر الجائعة الفقيرة العطشى المريضة المقهورة؛ فالسارق لن يعيد المسروقات، بقدر ما سيصرف بعضها على ضمان تمكينه من مسروقات أخرى. ليس أقل صحة، في المقابل، أنها مليارات صانعة للسلطة ومولدة للنفوذ، تشتري الرضا الخارجي عزيز المنال، مثلما تُكسب صاحبها منعة ومناعة.

وذات يوم أطلقت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية «نكتة سوداء»، إذا صح التعبير، حين تساءلت في عنوان واحد من مقالاتها الرئيسية: «هل يوجد غورباتشوف على ضفاف النيل؟»؛ وكان كاتب المقالة جاكسون ديل يعلق على زيارة مبارك الابن إلى واشنطن، ويحاول أن يضع سياقا سياسيا أمريكيا ومصريا للأسباب التي جعلت نجل الرئيس المصري يُستقبل بصفة رسمية في البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاغون. بالطبع، كان السياق المصري هو التقارير والمؤشرات والوقائع التي تتحدث عن خلافة الابن لأبيه، وكان السياق الأمريكي هو أن الإدارة قابلة بهذا التوريث مادام الفتى لا يشبه أبيه في الولاء للولايات المتحدة، فحسب؛ بل يسابقه ويسبقه ويتفوق عليه!

يومذاك كان نظام مبارك الأب قد أعاد تفعيل مركز جديد للسلطة، عُهد إليه هذه المرة بتمهيد الطريق أمام التغيير القادم في قمة الهرم، وإعطاء إشارات كافية حول الخلافة؛ وكان ذلك المخلوق هو «الحزب الوطني الديموقراطي»، القديم والحاكم نظريا منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ويفترض في ذاته احتواء «الأغلبية» الشعبية المصرية. وتلك محاولة انطوت على مخاطرة الإيحاء بأن المركز التقليدي للدولة، أي الرئاسة، قد ضعف أو هرم ويحتاج إلى تجديد، والإيحاء بأن الأوان قد آن لتبديل الشيوخ بالشباب، ولإطلاق سيرورة توريث مبارك الابن. ومن جانب آخر كان الحزب قد جازف بالخوض في مجالات حساسة مثل البحث عن الهوية السياسية وأساليب الحكم وحقوق الانسان ومعضلات المجتمع، واعتماد شعار فضفاض ومثير للإحراج في آن معا هو «الفكر الجديد وحقوق المواطن».

وخلال مؤتمر مشهود للحزب، وبعد ثلاثة أيام من المناقشات التي غاب عنها تماما، حضر مبارك الأب وألقى كلمة برهنت أن أبرز أهداف المؤتمر هو تكريس الدور المحوري لولده جمال، وذلك حين تبنى الأب كل الأفكار والاقتراحات التي سبق للابن أن عرضها في الجلسة الافتتاحية تحت عنوان «الإصلاح السياسي وحقوق المواطن». أعلن مبارك الأب إلغاء الأحكام العسكرية الصادرة على عشرات الآلاف من المواطنين الذين تعدوا على الأراضي الزراعية وحولوها الى مناطق سكنية، ودعا أحزاب المعارضة الى حوار وطني والى تفعيل دورها في المجتمع المصري، وعقد مؤتمراتها وتنظيم حملاتها، وفتح الباب أمام تعديل قانون الجنسية الذي يمس الآلاف من أبناء المصريين والمصريات المتزوجين من أجانب…

منطقي بذلك، ومنتظَر أغلب الظن، أن يبدأ مختبر إعادة تأهيل مبارك الابن من هذه المناخات، التي ستنوب عن الحزب في الترويج لها أطرافٌ متنوعة شتى؛ لها أن تبدأ من الجماهير الهاتفة بـ«يا رب ترجع أيامكم»، و«هو جمال إن شاء الله»؛ وأن تمر بهذا الضابط الساخط في الجيش/ المؤسسة الاستثمارية أو ذاك في الجهاز الأمني، ورجل أعمال يمثل تماسيح النهب تارة أو آخر يقود قطعان ذئاب الفساد تارة أخرى؛ ولا تنتهي في أبو ظبي والرياض وتل أبيب، فضلا عن واشنطن داخل أروقة البيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون. مبكر، مع ذلك، وربما بسبب من ذلك تحديدا، أن يعطي المختبر ذاته نتائج ملموسة أو واضحة بما يكفي؛ حتى إذا كانت مؤشرات من قلب السلطة تفيد بأن هواجس ما يُختبر لتوه تقلق النظام.

للمرء أن يبدأ من محاولات السيسي رشوة الشارع أو امتصاص النقمة، من خلال رفع الحد الأدنى للأجور (حتى بمعدل 300 جنيه!)، والدعم المالي عبر بطاقات التموين، ومنح علاوة استثنائية (بالمبلغ الأيقوني الهزيل ذاته: 300 جنيه!). وللمرء أن ينتقل إلى عصبية النظام في التعامل مع الدعوات إلى المشاركة الجماهيرية الأوسع في حملة «11/11» يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل)، التي تكتسب المغزى من تزامنها مع احتضان مصر قمة المناخ «كوب 27» في السادس من الشهر الجاري؛ والتي سيسعى إلى هندستها مجددا المقاول والممثل المصري محمد علي، صاحب فيديوهات التفضيح الشهيرة خريف 2019.

ولأن المؤسسة العسكرية هي التي تحكم مصر منذ سنة 1952، عبر محمد نجيب وعبد الناصر والسادات ومبارك ومحمد حسين طنطاوي والسيسي؛ فإن المختبر قد يلجأ إلى مشير ما، قابع في الظل، من باب الوفاء لإرث العسكر، حتى على سبيل تلبية الشكل من دون المساس بالمحتوى الفعلي.

القدس العربي