لا يحق لحركة “حماس” أن تنتقم من الفجور الإسرائيلي في المسجد الأقصى باستخدامها الجنوب اللبناني لإطلاق الصواريخ على إسرائيل، لأن ما تفعله “حماس” بمثل هذه العمليات هو أولاً، انتهاك السيادة اللبنانية، وثانياً، احتقار لحق الشعب اللبناني باختيار قراره وحق الشعب الفلسطيني بالتعاطف والمساندة له بدلاً من اطلاق الغضب منه وعليه نتيجة مغامرات “حماس” البائسة. لا يحق لرئيس المكتب السياسي في حركة “حماس” إسماعيل هنيه أن يغامر بانتقام إسرائيلي من لبنان وشعبه الذي يمر بمأساة الانهيار. وبالتأكيد لا يحق للأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله أن يجرّ لبنان الى معاركه التي يمليها عليه “الحرس الثوري” في طهران ويجلس مع اسماعيل هنيه في اليوم ذاته من إطلاق الصواريخ “الفلسطينية” من الأراضي اللبنانية، فيعيدنا الى “لو كنت أعلم”.
هذه ليست مقاومة وإنما هي مزايدات فلسطينية – فلسطينية ورسائل فوقيّة إيرانية عنوانها أن الجمهورية الإسلامية وحدها التي تردّ على الاعتداءات الإسرائيلية البشعة على المسجد الأقصى. لكن القصف الإسرائيلي للمواقع الإيرانية في سوريا هو المحرّك الأهم لرجال الحكم في طهران الذين لا بدّ كانوا على علمٍ مسبق بالصواريخ “الفلسطينية” المنطلقة من “الجبهة اللبنانية” لاحتواء عجزهم في “الجبهة السورية”. وإذا لم يكونوا على علم، فهذا أسوأ.
لنبدأ حيث يجب. ما تقوم به حكومة بنيامين نتنياهو والقوات الأمنية الإسرائيلية والمستوطنون المفعمون بالكراهية والعنصرية في المسجد الأقصى إنما هو ضد القانون الدولي وضد القواعد والمبادئ الإنسانية، وانتهاك صارخ يستحق كل إدانة ومقاومة.
المقاومة الفلسطينية لهذه الإجراءات والانتهاكات تقع فريسة مزايدات فلسطينية – فلسطينية هي الثمرة الدائمة للانقسامات الفلسطينية التي ساهمت في تفاقم معاناة الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي. “حماس” مسؤولة أوّلى عن هذه الانقسامات، لكن “فتح” والقيادة الفلسطينية هما أيضاً مذنبتان بحق الفلسطينيين بسبب رفضهما التجدّدية في صفوف القيادة وإصرارهما على التعنت في أكثر من مجال.
“حماس” لا تنفي ولاءها لـ”الحرس الثوري” في إيران، كما لم تخفِ خضوعها للإملاءات التركية عندما كان ذلك مؤاتياً لطموحاتها. فهي المثال الأفضل لمزيج من عقائدية “الإخوان المسلمين” وبراغماتية التحالف مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تتلقى منها صواريخها وتعليماتها.
العلاقات التركية – الإيرانية متوترة هذه الأيام، بالذات في سوريا. روسيا تحاول التوفيق بين الاثنتين على أساس إقناع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالتفاهم مع نظيره السوري بشار الأسد من جهة، وإقناع إيران من جهة أخرى بتقبّل ما يقتضيه هذا التقارب. إيران رافضة.
أثناء الاجتماع الرباعي لنواب وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران وسوريا، في موسكو الأسبوع الماضي، فشلت جهود التوصل الى خطة للخروج من الخلافات. إيران أصرّت على ما تسميه وحدة الأراضي السورية حتى الحدود السورية – التركية، علماً أنها تعتبر نفسها مدعوّة شرعيّاً من قبل الحكومة السورية لبسط نفوذها وقواعدها ورجالها أينما كان في الأراضي السورية. فهي لا تريد التفريط بشبر من هذه الامتيازات، وتريد من روسيا أن تكون شريكاً وضامناً. إنما مشكلة طهران مع موسكو أكبر.
إيران مستاءة من رفض روسيا اتخاذ إجراءات عسكرية للرد على القصف الإسرائيلي المستمر للمواقع الإيرانية داخل سوريا علماً أن في وسع روسيا تفعيل آليات الرد لحماية المواقع الإيرانية، بما في ذلك إسقاط الطائرات الإسرائيلية. روسيا مُحرَجة.
روسيا مُحرَجة وهي تعي تماماً أن القصف الإسرائيلي يورّطها ويسبب لها مأزقاً صعباً. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حاجة الى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليس بسبب ما تربطه به من صداقة خاصة فحسب، وإنما بسبب حاجته اليه في الحرب الأوكرانية. لا يمكن للكرملين أن يغامر في هذه الأولوية القاطعة له ولذلك لا يمكن له أن يلبّي ما تطلبه منه طهران.
طهران بدورها ليست قادرة اليوم على توسيع بيكار المواجهة مع إسرائيل كما كانت تهدّد أن هذه تماماً خططها بما يشمل المواجهة المباشرة عبر الساحة السورية. فإيران بعد الاتفاقية الثلاثية الصينية – السعودية – الإيرانية ليست إيران ذاتها قبل الاتفاقية التي تكبح شهيتها العسكرية. عليه، اضطرت طهران الى تفعيل خيارها المفضّل وهو الانتقام من إسرائيل عبر أذرعها التي تشمل “حزب الله” في لبنان و”حماس” في غزة. فتوحيد جبهات المقاومة، أو توظيفها كما تقتضي التطورات، هو حاجة إيرانية أكثر إلحاحاً اليوم مما كانت حتى وهي مقيّدة.
جبهة “حزب الله” أصعب اليوم من غيرها لأن الأمر يتعلق بأمرين: أولاً، ما تقتضيه الاتفاقية الثلاثية من تفاهمات معلنة وضمنية بتوقف طهران عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول وإثبات تغيير سلوكها، وفي هذا المجال إن أداءها في لبنان وتهدئة “حزب الله” جزء أساسي من هذه التفاهمات. وبالتالي، إن جرّ لبنان الى حرب إسرائيلية ضده عبر عمليات يقوم بها “حزب الله” لا يتماشى مع الوعد بحسن السلوك وتلطيف الأداء. ثانياً، إن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل أتت بموافقة “حزب الله” وإيران معاً لأسباب عديدة تشمل الفوائد المالية الناتجة عن تنقيب النفط والغاز.
“حزب الله” سارع الى التسريب في أن الصواريخ التي تم إطلاقها ليست صواريخه وحرص على التبرؤ منها. من سوء حظ السيد حسن نصرالله أنه قرر استقبال اسماعيل هنية فيما صواريخ هنية تنطلق من الجنوب اللبناني- عرين نصرالله الذي يُفترض أن الذبابة لا تطير فيه من دون إذنه المسبق. فإما أنه أعطى اذناً مسبقاً، وإما أنه فوجئ، وفي الأمرين خلل في الوعود وفي الأداء.
لعلّ الصراعات الداخلية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية جزء من التباين. لعلّه توزيع أدوار بين “الحرس الثوري” وصفوف الاعتدال التي كان وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبداللهيان يمثلها في اجتماعه مع نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان في بكين بوجود وزير خارجية الصين للبدء في تنفيذ بنود الاتفاقية الثلاثية.
مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي هو الضامن للاتفاقية الثلاثية لأنه هو الذي أراد صفحة جديدة في العلاقات وقرر أن هذه هي الوسيلة لإنقاذ إيران من الاختناق. فعل ذلك على نسق ما فعله المرشد الأول روح الله الخميني عندما “تجرّع كأس السم”، بحسب تعبيره، بموافقته على اتفاقية وقف النار مع العراق وقبوله بالقرار الأممي 598 في تموز (يوليو) 1988.
ملامح المشهد الإيراني الداخلي اليوم ليست واضحة تماماً بل إن المؤشرات متضاربة حول النزاع على السلطة وولاية الفقيه ما بعد الخامنئي. في الوقت الحاضر، يبدو أن القرار الذي أجمع عليه رجال طهران هو قرار النزول عند رغبة الصين التي دفعت الى الاتفاقية وأوضحت أنها ستكون راعيها وضامن تنفيذها.
الاجتماع الوزاري في بكين هذا الأسبوع كان مثمراً لأنه اعتمد خطوات تنفيذية مهمة، من فتح السفارات والقنصليات الى استئناف الرحلات الجوية إلى الشراكة الاقتصادية، الى الأمر الأهم، وهو، تفعيل الاتفاقية الأمنية لعام 2022 بين البلدين. فهناك تماماً يتم امتحان ما إذا كان رجال الثورة الإيرانية لعام 1979 قد قرروا تعديل عقائدية ثورتهم ومبرر وجودهم كنظام raison d’etre، أو إنْ كانوا في تخبّط بين التعديل الجذري الدائم وبين تجميل السلوك وتلطيف الأداء مرحلياً فقط.
نتائج الاجتماعات بين بن فرحان واللهيان تبدو مبشرة ومثمرة. ملف اليمن سيكون أولى محطات الامتحان الأمني للنوايا وللإجراءات. ملف لبنان أقحم نفسه بصورة ملحّة أكثر مما كان يُعتزم، وذلك بسبب التطوّرات في الجنوب اللبناني بكل ما انطوت عليه من تناقضات وتساؤلات.
السعودية وإيران تتفقان على إدانة إسرائيل وإجراءاتها التعسفية والقبيحة واللاشرعية واللاقانونية ضد المصلين في المسجد الأقصى وغيرها من سياسات حكومة نتنياهو العنصرية والمتطرفة. واضح أن السعودية لا ترى مبرراً لاستخدام لبنان منطلقاً لصواريخ تقذفها الفصائل الفلسطينية من جنوبه لتورّطه في حلقة انتقام اسرائيلي، فيأتي انتهاك سيادته مكرّراً. أما إيران، فإنها غير واضحة في مواقفها من استخدام الفصائل الفلسطينية للأراضي اللبنانية، بل إنها تؤيد ذلك نظرياً طبقاً لمبدأ توحيد المقاومة الشاملة ضد إسرائيل.
ليس واضحاً كذلك ما إذا كانت الصواريخ الفلسطينية التي انطلقت من بساتين لبنانية بالقربٍ من مخيم “الرشيدية” للاجئين الفلسطينيين قراراً مستقلاً لحركة “حماس” -وهذا مستبعد- أو إنْ كانت تلبية لرغبات “الحرس الثوري” لحسابه الخاص Free lance، أو إن أتت بقرار مدروس من طهران وبتنسيق مع قيادة “حزب الله”.
في نهاية المطاف، لم يكن القرار موفّقاً لأنه أضرّ بالفلسطينيين واللبنانيين على السواء كما فضح التخبط الإيراني وأحرج “حزب الله” في ملعبه. والسؤال البديهي هو، كيف للفصائل الفلسطينية، وبالذات “حماس”، كل هذه القدرات الصاروخية في لبنان والتي يُفتَرض أن تحتاجها في فلسطين لتنفيذ مقاومة جديّة ضد إسرائيل بدلاً من مجرد مناورات خجولة تخدم إسرائيل في نهاية المطاف.
تلك الاتفاقية المشؤومة المعروفة بـ”اتفاق القاهرة” لعام 1969 لتنظيم الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان هي سبب البلاء. فكيف لدولة مستقلة أن تسمح بوجود سلاح خارج سلطتها على أراضيها إذا كانت حقاً دولة بمعنى الكلمة؟
سلاح “حزب الله” يبرّر سلاح “حماس” في الأراضي اللبنانية خارج سلطة الدولة في انتهاك صارخ لسيادة الدولة. “حزب الله” مكوّن لبناني له الحق بالشراكة الوطنية، وليس بمصادرة القرار. فإذا كانت طهران تعتزم حقاً إصلاح منطق نظامها لتبني التعايش والتعاون الأمني في المنطقة، عليها أن تبدأ التفكير بتفكيك أذرعتها المسلحة في الدول العربية، من “الحوثي” في اليمن الى “حزب الله” في لبنان.
مقاومة إسرائيل من الأراضي الفلسطينية حق فلسطيني يتطلب الكف عن الانقسامات والمهاترات بين القيادات الفلسطينية. يتطلب استراتيجية عربية ودولية لتضييق الخناق وإجبار إسرائيل على لجم عقيدتها العنصرية وإجراءاتها ليس فقط ضد المصلين في المسجد الأقصى. يتطلب لجم استراتيجيتها الرامية الى إقامة دولة يهودية نقية خالية من الفلسطينيين ما يتطلب محركاً ومبرراً لتنفيذ الإبعاد القسري للفلسطينيين من الداخل الإسرائيلي كعلاج لما تسميه بالقنبلة الديموغرافية. “حماس” تقدّم الذرائع لإسرائيل، إما عمداً أو هبلاً. فحذار الوقوع في فخ التطرف الإسرائيلي الممنهج.
النهار العربي
Be the first to write a comment.