مضى زمن لم أكتب فيه عن سوريا وأزمتها/ محنتها، رغم أن تفاعلي الوجداني والشخصي لم يتوقف، ومتابعتي اليومية لم تنقطع، كما أن بوصلتي المعنية بالشعب السوري ومعاناته وحقوقه وتطلعاته لم تفقد اتجاهها.
كنت، وما زلت، أعتقد أن النظام السوري انعطب منذ اللحظة الأولى لانتفاضة الشعب في عام 2011، ورغم كل المؤازرة والدعم من النظام الإيراني، ثم التدخل الروسي، والضمان الإسرائيلي، والقبول (الضمني) الأميركي والأوروبي، كذلك القبول الصيني، فضلاً عن استمرار تمثيله سوريا في الأمم المتحدة، وأخيراً إعادته إلى جامعة الدول العربية… لم يستطع أن يتجاوز صفة “الدولة المارقة” التي يتمسّك بها، ولم تمكّنه عقليته الاستبدادية ولا نزواته السياسية – الأمنية من توظيف هذه المكاسب والميزات التي توفّرت له في مراجعة ما حدث طوال 13 عاماً ماضية، وطرح “حلّ سياسي” يُظهر أنه معني بسوريا والسوريين، لكنه أكّد أنه غير معني. فالكلّ يتحدث/ يثرثر عن مثل هذا “الحلّ”، إلا النظام نفسه وحليفه الإيراني، لأهداف مشتركة. لكن للحليف أهدافاً خاصة به، لا بسوريا.
أما المعارضة، بكل فئاتها وتشكيلاتها، وبجميع المخلصين والجدّيين وأصحاب الكفاءات فيها وهم ليسوا أقلية، عدا أصحاب الأجندات من “إخوانيين” ومرتهنين وانتهازيين، فإنها عانت سريعاً من أمراض 50 عاماً من العيش تحت نظام الاستبداد، بكل ما انطوت عليه من قمع للحريات وسحق للمواطنة والحقوق وترسيخ لانتهاك كرامة الشعب. لكن الأكثر خطراً ومضاضةً أن صحوة الشعب وكسره حاجز الخوف وإطالة الأزمة لم تُسعف هذه المعارضة في تخطّي عوارض تلك الأمراض المزمنة، التي تمكّنت في نهاية المطاف من شلّ الفاعلية السياسية لمن يفترض أنهم يمثلون الشعب السوري، ويدافعون عن مستقبله.
للإنصاف، لم تكن للمعارضة قدرات ذاتية، وكان لا بدّ من أن تبحث عمن يدعمها. وإذ بدا الداعمون الدوليون كثراً وفاعلين في بعض المراحل، إلا أنهم انفضّوا عنها مع انتشار “الإرهاب الداعشي”، رغم يقينهم بأن النظام والإيرانيين أدخلوا الإرهاب على الخط لتدمير قضية الشعب السوري، وإظهار النظام كأنه مرجعية يمكن الوثوق بها، غير أنه برهن لهم جميعاً، بمن فيهم العرب، أنه غير قابل لإعادة التأهيل.
ربما لم يخطئ أولئك الباحثون، السوريون والغربيون، الذين قالوا إن النظام أنتج المعارضة التي تناسب مآربه. وبالتالي، لا مبالغة ولا افتراء على المعارضة في القول إنها والنظام أصبحا شريكين في العجز عن منح السوريين أي أمل. وفي الوقت الذي حظي النظام بحلفاء وداعمين أنقذوه وحموه وغطّوا جرائمه، بما في ذلك التقاء الروس والأميركيين على تمييع محاسبته على استخدام وتكرار استخدام السلاح الكيماوي، ما لبث داعمو المعارضة أن تفرّقوا. فمنهم من دخل في تسويات كتركيا التي ركّزت على إدارة الأزمة وتحقيق مصالح بالتشارك مع روسيا وإيران في إطار ما سمّي “صيغة أستانا”، ومنهم من اختار مسارات أخرى كالعرب الذين تقاربوا مع روسيا وتركيا ثم مع إيران بعدما أيقنوا أنّ لا جدوى من انتظار أي مبادرات أميركية (أو أوروبية)، إذ اكتفت واشنطن بشعار “مكافحة الإرهاب” وبسيطرة شكلية على شمال شرقي سوريا. وبسبب خلافها الاستراتيجي مع روسيا حول أوكرانيا، لم يعد أي “حلّ سياسي” لسوريا متصوَّراً في المدى المنظور، كما أنها لا تبدو قريبة من حسم خيار “الكيان الكردي” الذي ترفضه الأطراف الأخرى.
لذلك، باتت السمة الغالبة على تعامل الجميع مع “المسألة السورية” هي النفاق، وسيلة سهلة لكسب الوقت والمصالح، ولسعي كل طرف إلى الحفاظ على ما اقتطعه من سوريا كـ “ورقة” في انتظار لحظة المساومات. ومن أدوات النفاق الاستشهاد الدائم بالقرار الدولي 2254 الذي شكّل في حينه (كانون الأول/ديسمبر 2015) ذروة التوافق بين روسيا والولايات المتحدة، الأولى لتحصين تدخّلها في سوريا وتوظيف هذا التدخل في المساومة على أوكرانيا، والثانية لانتزاع ميزات تعوّضها من جهة عن قلّة مصالحها في سوريا، وتمكّنهما بالتالي من اغراء روسيا بـ “الجائزة السورية” لتقلّل من تركيزها على أوكرانيا.
وفيما تشاركت روسيا مع إيران في احتلال سوريا، ما لبثت أميركا أن استخدمت “الحرب على داعش” والاعتماد فيها على أكراد قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، وفرضت واقعاً جديداً يمنع الروس والإيرانيين والنظام من التحكّم بتطبيق القرار 2254، كما استفزّت تركيا التي استغلّت أيضاً “الحرب على داعش” والاعتماد على الكرد للتمدد داخل سوريا. ما يجعل من النفاق سياسية مطبّقة على الأرض هو أن هذه الأطراف الأربعة التي تتقاسم حالياً النفوذ داخل سوريا، وخامسها نظام بشار الأسد، هي نفسها التي تكرّر في مختلف مواقفها “التزامها الثابت سيادة سوريا واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها”. وكان مجلس الأمن أكد هذا الالتزام في ديباجة القرار 2254، مستخدماً عبارة “سلامتها الإقليمية”.
يُشكّل هذا الالتزام ركيزةً لكل البيانات الصادرة عن اجتماعات دول “صيغة أستانا”، وكأن استئثار روسيا وإيران بأجزاء من سوريا (بموجب صكوك بيع أو إيجار طويلة الأمد وقّعها رأس النظام) يعني صوناً لـ “السيادة”. وبلغت هذه الدول أخيراً عقدة إنجاز مصالحة بين تركيا والنظام، وهي مصالحة تريدها روسيا بشدة لتعزيز اجتذابها تركيا إلى معسكرها، وتريدها تركيا لتثبيت نفوذها بـ “مشروعية” تدخّلها. لكن إيران تعارضها، لأن وجود تركيا ينافس نفوذها، خلافاً للمعادلة التي حكمت تعايشها مع الوجود الروسي، لذلك تحرّض النظام بل تجبره على رفض المصالحة أو فرض شروط تعجيزية لتأخيرها أو إفشالها. أما الولايات المتحدة، فتتغطّى بشرعية “التحالف الدولي ضد الإرهاب” لإدامة سيطرتها على شبه “الدويلة الكردية” وإبقاء موطئ نفوذ لها في الشمال الشرقي. وأما النظام فيتعايش مع كل التدخّلات لقاء بقائه.
لكن لـ “السيادة” تشرذم هذا وما يستتبعه من مبادئ تنعكس على مختلف الاستحقاقات المطلوبة ليس فقط بحكم القرار الدولي الذي أُشبع إفراغاً من مضمونه، وإنما بحكم المنطق والضرورة. فلا خروج من الأزمة، ولا عودة للمهجّرين، ولا رفع للعقوبات، ولا تطبيعَ للوضع الداخلي، إلا باعتماد “حلّ سياسي” ينبغي أن يحظى بأكبر مشاركة من أطياف الشعب السوري.
غير أن لـ “الحلّ السياسي” شروطاً لا يستقيم من دونها. وكانت روسيا استحوذت على قيادة البحث عن هذا الحل، واشترطت باكراً أن يكون ضمن النظام وتحت مظلّته. ثم حاولت تطوير هذه الصيغة وإدخال عناصر “معارضة” من الموالين لها، فوجدت صدّاً من النظام وإيران، وتحاول الآن تركيب “حوار” موسّع ومفتوح، بلا أفق زمني، لتحقيق تقدّم ولا تجدّ استجابة من النظام وإيران، وتبقي اللجوء إلى “اللجنة الدستورية” خياراً قابلاً للتحريك غير أن النظام أفشل كل الاجتماعات السابقة لهذه اللجنة… الواقع أن الحقيقة الثابتة التي رسّخها الشعب السوري، وأكّدتها الوقائع الباقية: استحالة التوصّل إلى “حلّ سياسي” بوجود هذا النظام ورئيسه، وإدراك روسيا ذلك لكنها تعترف. أما إيران فهي أكثر وضوحاً، إذ تعتبر أنها والنظام يخسران في أي “حل سياسي” حقيقي، لذلك يحبطان أي اقتراب منه.
سوريا وأحوالها 963 +
Be the first to write a comment.