في صيف 1967 كان الجنرال الإسرائيلي عوزي ناركيس، قائد المنطقة الوسطى والوحدات التي استولت على القدس القديمة، قد وافق على إجراء حوار مع صحيفة «هآرتز» الإسرائيلية، اقترن بشرط غريب غير مألوف: ألا يُنشر الحوار إلا بعد وفاة جميع الأشخاص المذكورين فيه، بما في ذلك الجنرال نفسه. الأمر الذي التزمت به الصحيفة، نظراً للمعلومات «الديناميتية» التي تضمنها وكان الكشف عنها كفيلاً بإحراج أصحاب العلاقة، وفي عدادهم قادة الجيش الإسرائيلي وكبار مسؤولي الاحتلال، فنشرت الحوار بعد وفاة ناركيس سنة 1997.
في ذلك الحوار يروي ناركيس أنه، بعد ساعات معدودات أعقبت دخول الاحتلال الإسرائيلي إلى القدس القديمة، في حزيران (يونيو) عام 1967؛ هرع إليه كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي آنذاك، شلومو غورين، كي يحثه على إصدار أمرَين: الأوّل هو تدمير قبّة الصخرة، والثاني هو تقويض المسجد الأقصى. وحسب ناركيس، دار الحوار التالي يوم 7 حزيران (يونيو) 1967 في ساحة المسجد الأقصى:
ــ الحاخام غورين: الآن هو الوقت المناسب لوضع 100 كغ من الموادّ الناسفة، وتدمير مسجد عمر، وتخليصنا منه مرّة وإلى الأبد.
ــ الجنرال ناركيس: كفّ أيها الحاخام!
ــ ولكن يا عوزي اسمك سوف يدخل التاريخ من أوسع أبوابه!
ــ اسمي دخل لتوّه في كتب التاريخ الخاصة بأورشليم.
ــ أنت لا تدرك المغزى الهائل لهذا الفعل. هذه فرصة يتوجب اغتنامها الآن بالذات. غداً سوف تفوت الفرصة نهائياً.
وتقول بقية الحكاية إنّ الحوار تناهى إلى أسماع الجنرال موشيه ديان، وزير الدفاع آنذاك، ولكنه لم يتخذ أيّ إجراء رادع بحقّ الحاخام، بل بالعكس: سمح له أن يلقي خطبة نارية أمام عدد كبير من الضباط، قال فيها بالحرف: «إنها لمأساة أن تكون إسرائيل قد تلكأت في تدمير مسجد عمر».
تلك واحدة من عشرات الوقائع التي تثبت وتعيد تثبيت الاستيهام الصهيوني المَرَضي بصدد الأقصى وقبّة الصخرة، لأنّ الجنرال نفسه الذي لم يأخذ بنصيحة الحاخام كان يحدّث ضميره هكذا، طوال الاشتباكات والمعارك التي سبقت سقوط القدس تحت الاحتلال: لن نكرر خطأ 1948، ويتوجب أن نحتلّ البلدة القديمة. وهو أقرّ، صراحة ومن دون حرج يخصّ الأشخاص الأحياء، أنه «أورشليميّ الولادة»، ويعزّ عليه ألا يدخل قلب القدس فاتحاً؛ ومن هنا كان حرصه على التواجد، في صورة واحدة شهيرة، مع موشيه ديان وإسحق رابين على مداخل المدينة العتيقة.
هوس قطعان المستوطنين والجماعات اليهودية المتطرفة وحاخامات «السنهدرين الجديد» على إقامة طقس القرابين في باحة المسجد الأقصى، أو حتى داخل الحرم كما قد تذهب المخيّلة الهستيرية، ليس سوى أحدث وقائع الفانتازيا الشائهة تلك؛ وهذا المسّ المقدسي كان ويظلّ ديدن شرائح واسعة في مجتمع الاحتلال، هي الغالبية القصوى عملياً: الديني المتشدد مع العلماني المعتدل، واليميني المستنير مع اليساري الليبرالي، وعمدة مدينة ليكودي صقري مثل إيهود أولمرت، أو سلفه الليبرالي الحمائمي تيدي كوليك، والحبل على الجرار عند أمثال أوري ليوبينسكي (الذي دعا إلى هدم المسجد الأقصى!) وصولاً إلى نير بركات (الذي اقترح على الفلسطينيين أن تكون رام الله عاصمتهم، ثمّ تكرّم وتنازل فوافق أن تُسمّى «القدس الشمالية»!)…
لا تختلف الحال كثيراً عند مواطن أمريكي، لكنه يهودي ويحمل الجنسية الإسرائيلية، مثل رجل الأعمال إرفنغ موسكوفيتز، الملياردير الذي تتكدّس ملايينه عبر آلات القمار؛ الذي زار القدس بهدف واحد وحيد، صريح فاضح ولا حرج في إعلانه، هو تقديم «الكفارة التوراتية». وفي داخل النفق الحاسموني الشهير، وعلى مرمى حجر من المجارير الهيرودية، أعلن موسكوفيتز التبرّع بملايين إضافية لشراء المزيد من الأراضي والبيوت الفلسطينية؛ وقال: «السيطرة اليهودية على أورشليم، على الهيكل والحائط الغربي، أهمّ من السلام. واليهود على مرّ العصور لم يصلّوا من أجل السلام مع العرب، بل من أجل بسط السيطرة اليهودية على أورشليم».
والحال أنّ بعض الفضل في الربط المعمّق بين الدولة والهوس والفانتازيا يعود إلى البريطانية جاكلين روز، الناقدة والأكاديمية اللامعة التي تشتغل منذ سنوات على الأسس النفسية للخطابات النسوية وما بعد الاستعمارية في الرواية والشعر؛ وهي يهودية أيضاً، وتنتمي إلى صفّ الأقلية التي تعترف بهذا القدر أو ذاك من حقوق الشعب الفلسطيني، وتعترض على هذا التفسير أو ذاك لمفهوم دولة إسرائيل بالمعاني الحقوقية والتاريخية والسياسية والأسطورية. وكتابها «دول الفانتازيا» ينهض على سؤال مشروع وشجاع: ما هو دور الفانتازيا في قيام الأمم وتأسيس الدول؟ هل ينبثق الاعتراض الإسرائيلي الجوهري على الدولة الفلسطينية من حقيقة خضوع الوجدان الجمعي اليهودي إلى فانتازيا الدولة اليهودية بالذات؟
دولة الاحتلال، المدججة بالاستيطان والعنصرية والفلسفات الصهيونية، لا تستطيع منح الفلسطينيين الحقّ في إقامة دولة مستقلة، ليس بسبب خطر وشيك داهم أو بعيد قادم، فحسب؛ بل لأنّ شحنة الفانتازيا المناهضة لهذه الإمكانية عالية في الوجدان اليهودي، بحيث يلوح أنّ الأسس العقلية والنفسية للدولة اليهودية سوف تنهار أو تتآكل إذا قامت دولة فلسطينية واتخذت، بالتالي، صيغة فانتازيا موازية للفانتازيا اليهودية.
وأمّا في القدس المحتلة، فالهوس والهستيريا والسعار والجنون هي مرادفات إضافية عليها تقتات حمّى الاستيهام.
Be the first to write a comment.