في البدء، كان الخطأ الأكبر هو في الشروع بالتفاوض مع العدو الاسرائيلي على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية. كان لبنان العاجز عن توفير الخبز والدواء والطاقة لمواطنيه، غير مؤهل لمثل هذه الخطوة الاستراتيجية، مع عدو لا يرحم، ووسيط لا يغفر. كان يتوقع أن يكون تحلل الدولة المركزية اللبنانية وتشرذم مؤسساتها دافعاً نحو المزيد من التروي، لا من باب الاعتراض على مبدأ التفاوض، تحت مظلة الامم المتحدة، بل من باب الإستعداد والتخطيط والتوحد حول موقف وطني جامع..وحول خريطة مرسومة بدقة وبشكل حاسم.
ربما، فات الاوان على مثل هذا التقييم، الذي يختصر بالقول ان لبنان تسرع في الذهاب الى المفاوضات، وهو يبدو اليوم وكأنه سقط في فخ، كان ترقبه سهلاً جداً. بينما كان يمكن ألا يتحمس الى هذا الحد، وأن ينتظر على الاقل العروض الاسرائيلية الاولى للتفاوض والسقوف التي يمكنه أن يخترقها والشروط التي يمكنه أن يفرضها، على العدو اللاهث للحفر في مياه المتوسط، وإستخراج النفط والغاز.
ومرة أخرى، ما لم يسقط بمرور الزمن على هذه التجربة الدبلوماسية الفاضحة، التي تطابق جميع التجارب المشينة التي خاضتها الدولة اللبنانية على مدى الاعوام الثلاثة الماضية، هو أن الرؤساء الثلاثة، (أو الأربعة إذا ما أضيف اليهم الرئيس سعد الحريري)، الذين إرتكبوا ذلك الخطأ الكبير في الشكل، هم متواطئون أيضاً، على المضمون، الذي يتمثل بالذهاب الى قاعة التفاوض في الناقورة، متخلين سلفاً عن الخط 29 الحدودي، كأساس للمساومة مع العدو، حسبما اقترحت قيادة الجيش.. على قاعدة أنه خط يصعب الدفاع عنه. وهو ما يضعهم اليوم في قفص الاتهام، ويدفعهم الى تبادل الاتهامات في ما بينهم حول المسؤول عن هذا الموقف التفاوضي الضعيف والمربَك، وعن هذا السقوط في الكمين الاسرائيلي، المنصوب منذ ما قبل الجلوس معا في قاعة واحدة تحت علم الامم المتحدة.
والاغرب ان العدو الذي سبق ان بدأ الحفر والاستخراج والتسويق لغاز المتوسط من الحقول الموجودة في “مياهه”، لم يخف يوماً عزمه على الإنتقال الى الحقول المتنازع عليها، مع لبنان، وقد أفصح أخيراً أنه عازم على الاسراع بهذه الخطوة، للاستفادة من ارتفاع الاسعار العالمية نتيجة فقدان النفط الروسي من الاسواق..وهو ما لم يصدقه لبنان، وما لم يعمل على مواجهته، ولو بالحد الادنى، أي برفع الصوت عالياً واستخدام الوسائل السياسية الدبلوماسية كافة، والتلويح حتى بصواريخ حزب الله نفسه، (الذي يبدو اليوم أنه جزء من التواطؤ الرئاسي) أمام هذا التعدي الاسرائيلي على ما هو بالحد الادنى “متنازع عليه”.. بدل التسليم الحاصل اليوم بالامر الواقع الذي يسعى العدو الى فرضه، أو على الاقل الى جلب المفاوض اللبناني الى الناقورة ، مجرداً من أوراق القوة التي يمتلكها.
هذه الاوراق، التي لم يستخدم لبنان أيا منها حتى الآن، قد لا تعدّل موازين القوى، لكنها يمكن أن تمنع العدو من الاخلال الفظ بتلك الموازين، وتحول دون أن يصل لبنان الى نقطة يكتشف فيها مثلا أن حقل كاريش والحقول المجاورة له لم يعد يحتوي على كميات تجارية من النفط، بعدما إستخرج الاسرائيليون ما يمكن تسويقه بوفرة.
والادهى من ذلك، هو أن الدولة اللبنانية، كانت ولا تزال تثق بأن العدو لن يسرق النفط المتنازع عليه، لحرصه على عدم خرق القوانين الدولية ، مع أن تجربته مع مصر ومع قطاع غزة، لا تبشر بالخير، كما أن تاريخه الطويل مع لبنان، قد يتيح له فرصة أن يتعامل مع النفط اللبناني كغنيمة حرب، أو كتعويض خسائر وأضرار سابقة لحقت به جراء حروبه المتتالية على لبنان.
وفي هذه الحالة لن يكون الاميركي وسيطاً، ولن يكون إنتظاره مخرجاً من المأزق الراهن..الذي لن ينتهي إلا بإعادة تكوين الملف اللبناني للتفاوض على ترسيم الحدود، من نقطة الصفر، وهو ما يستدعي ربما التريث-المماطلة- لبضعة أشهر لا أكثر.
جريدة المدن
Be the first to write a comment.