لم ينتظر المفكر برهان غليون إصرار إسرائيل على حرق غزة ليؤكد أنها تتصرف بالوكالة عن غرب غرسها في أرض فلسطينية بشكل مدروس، لكي تضمن مصالحه السياسية والإقتصادية الإستعمارية على حساب دول عربية لم يسمح لها بامتلاك قدرات زوّد بها إسرائيل لتضمن تفوّقها الأوروبي الصنع. في كتابه الجديد “سؤال المصير: قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ردّ غليون على سؤال: “لماذا تخلف العرب وتقدم الأوروبيون؟”، مفندًا طرح الحداثيين الذين جعلوا من الإسلام والتراث والقيم سببًا في تخلف العرب والمسلمين. لتوضيح مقاصده العامة، والخاصة المتعلقة بإسرائيل الماضية في مشروعها الإستعماري في غزة الشهيدة، والمغدورة بدعم من غرب أطاح بكل الذين حاولوا الوقوف في وجهه دعمًا لربيبته المدللة، وبتواطؤ مثقفين مستلبين، التقينا غليون في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. حاورنا غليون، بعد أن ألقى مداخلة أمام جمهور عربي جاء بقوة لافتة للاستفادة من فكر رجل متميز. في حديثه هنا برهن غليون على اختراقه الأفكار المتداولة في أوساط تتقاسمه التوجه، لكن باسم علمانية رثة ومعطوبة، على حد تعبيره، وبمنطلقات خاطئة وفظيعة أوصلتها إلى نتائج أفظع أبعدتها عن التحليل العقلاني رغم حملها لواء العقل. باستضافته غليون، يكون المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من الذين يغيّرون المشهد الثقافي العربي في باريس بمواعيد فكرية جديدة وجادة تصب في صلب إشكالات الراهن المتعدد الأوجه، وذلك تحت إشراف الأستاذ سلام الكواكبي.
جاء صدور كتابكم الجديد في ظرف يضفي عليه أهمية غير مسبوقة في مسار كتبكم السابقة. أقصد بالظرف حرق غزة، وتعرض مدنييها العزل إلى الإبادة بدعم من غرب قلتم عنه في مبحث: “لا تزال إسرائيل أحد أبرز عوامل القضاء على الحياة السياسية في الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة، صناعة غربية بامتياز”. ما الذي يمكنكم إضافته مبدئيًا في البداية؟
من الصعب للمرء ضبط مشاعره أمام ما يحصل في غزة من فظائع وانتهاكات. وما يحصل هو تأكيد على ما كنت قد- ذكرته عن الوظيفة التي أنيطت بإسرائيل في منطقتنا المشرقية. فمن خلال مراجعة تاريخ القرن الفائت الذي شهد تشكيل الشرق الأوسط كما هو عليه اليوم، كان من الواضح لي أن إسرائيل لم تكن صنيعة غربية فحسب، وهذا لا يحتاج إلى دليل، لا على المستوى السياسي، ولا العسكري، ولا الاقتصادي، وإنما أيضًا ذراع ضاربة للغرب في المنطقة لإخضاعها ومصادرة قرار حكوماتها السياسي، الوطني والإقليمي، وتمديد أجل السيطرة الغربية البريطانية والفرنسية حتى الحرب العالمية الثانية، والأميركية في ما بعدها، وإلى اليوم. بهذا المعنى، هي امتداد، أو بالأحرى اختراق أطلسي في قلب الشرق الأوسط، حتى لو لم تكن عضوًا معلنًا في الحلف. هذا ما يبرر وجودها، وهو ما عاشت ولا تزال تعيش عليه، وما ضمن ويضمن ازدهارها وتفوقها الساحق على جيرانها. وهذا ما يفسر أيضًا الحشد غير المسبوق للقوة العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية من وراء تل أبيب حالما أدرك الغرب الانهيار المعنوي للإسرائيليين من تلقي الضربة التي اخترق من خلالها الفلسطينيون جدار الفصل العنصري، وهاجموا القواعد العسكرية.
قلتم لي في حديث نشرته صحيفة “الخبر الأسبوعي” عام 2005، قبل توظيفه في كتابي “11 رؤية عن 11 سبتمبر”: “الإرهابيون هم أبناء العنف الإسرائيلي”. ما تعليقكم في سياق استبقتم أحداثه بقولكم المذكور، علمًا أن استخدامكم كلمة “الإرهابيون” لا يصب في المعنى الذي تسوقه إسرائيل كما نعرف.
في تلك الفترة، برزت الفكرة التي لا تزال سائدة إلى اليوم في الغرب، بل وانتقلت إلى البلدان العربية أيضًا، وهي أن- العنف هو جزء أصيل في الإسلام، ولا ينفصل عن الاعتقاد الديني للعرب والمسلمين، وبالتالي الإرهاب هو نتيجة هذا العنف الكامن في عقيدة المسلمين وتكوينهم الثقافي والبيولوجي. وكنت أقول، ولا أزال، أن العنف يرتبط بشروط حياة الأفراد الاجتماعية والسياسية، لا بعقيدة دينية، أو حتى علمانية. وأكبر مولد للعنف في العالم الحديث كان ولا يزال السياسات الاستعمارية القديمة والجديدة، وإن استمرار العنف في الشرق الأوسط كلغة تعامل بين الأطراف المتنازعة هو ثمرة استمرار الظاهرة الاستعمارية في المنطقة بأكثر صورها الدموية. إسرائيل تمّثل هذه الصور التي لم تتوقف خلال القرن الماضي بأكمله لقهر الفلسطينيين، واستعمار أرضهم، وقهر العرب لمنعهم من تشكيل قوة تهدد هذا الاستعمار الزاحف عليهم جميعًا. ولم يكن ذلك بارزًا بشكله الفج والدموي كما هو في الرد الإسرائيلي الأميركي والأوروبي على الاختراق المذهل للقلعة الإسرائيلية المدججة بكل أنواع التكنولوجية الحديثة من قبل كتائب المقاومة الفلسطينية. عنف المستعمر (بالفتح) هو الانعكاس المباشر لعنف المستعمر (بالكسر)، والذي لا يمكن مهما فعل أن يساويه، أو يبلغ مبلغه.
قلتم في المبحث المذكور أيضًا بأن العلاقة الجدلية بين الغرب الإستعماري وبين إسرائيل هي التي تفسر الحرب المستمرة منذ ما يقارب القرن ضد الشعوب العربية بالوكالة لمصلحة العواصم الغربية، وعلى رأسها واشنطن، التي نراها راعية وموجهة وداعمة كالعادة لإسرائيل في حرب الإبادة التي تشنها ضد الفلسطينيين في غزة ضد تنظيم عسكري صغير. أليس كذلك، وما الجديد والخاص الذي استرعى انتباهكم هذه المرة؟
الجديد هو تفوق الذكاء الإنساني الطبيعي على التكنولوجيا، وتفوق الإيمان على الغطرسة والعنجهية، وتفوق الأمل- بالتحرر والانعتاق على إرادة السيطرة والعنصرية، أي تفوق الإنسان الحر على الآلة العسكرية. لقد تعلّم الشعب الفلسطيني من تجاربه، وهو في طريقه الآن لتقويض أسطورة إسرائيل التي ظهرت على أنها ليست كما أريد لها أن تكون تجسيدًا لرفض المحرقة النازية، وإنما بالعكس، ذريعة لتبرير محارق أخرى في العراق وسورية، واليوم في غزة والضقة الغربية. لقد حوّلت هذه المحارق المشرق إلى خراب وبؤرة للبؤس والقهر والاقتتال والموت.
تحدثتم عن الحماية الغربية لإسرائيل التي تستمر في خرق القوانين الدولية بلا رادع ومساءلة ولا عقاب. هل تعتقدون أن قصفها المستشفيات في سابقة أولى من نوعها، واقتحامها وسط الرضع الخدج وغير الخدج، وتجويعها المدنيين وحرمانهم من الماء، سينقذها مجددًا من العقاب في ظل تجند رأي عام عالمي غير مسبوق كذلك؟
آمل ألا تستطيع إسرائيل وشركاؤها الإفلات هذه المرة من العقاب. إذا لم يتحقق ذلك، سيفقد الغرب الداعم لها هو ذاته- صدقيته، بل إنسانيته، ويصبح جسدًا من دون روح.
إلى أي حد يمكن اعتبار تماهي عدد من الدول العربية في ظل محرقة غزة مع إسرائيل تأكيدًا جديدًا على صحة قولكم في كتابكم، وتحديدًا في الصفحة 88: “صار سحرها، والتماهي معها، يطغى على كل ما تفعله انتقامًا من الشعوب التي طالبت بنهاية الإستعمار”. هنا، أربط سؤالي بما قلتم في موقع سابق: “إسرائيل نتاج خطة غربية للتعويض عن انحسار الاستعمار الغربي الكلاسيكي، واضطراره للرحيل عن منطقة مليئة بالموارد الإستراتيجية والمكانة الجيوسياسية”.
ربما كان من أهم آثار طوفان الأقصى سقوط وهم الرهان على الحماية الإسرائيلية في مواجهة أخطار السياسات- الإيرانية، وربما الثورات الشعبية لدى عدد من الأنظمة العربية. فمن يعجز عن حماية نفسه أمام مجموعة مسلحة ليس لديها سوى أسلحة بدائية نسبيًا، لا يستطيع أن يضمن حماية أي دولة، أو نظام.
الحديث عما تقوم به إسرائيل اليوم في غزة ليس مصادفة، أو مفاجأة، أو صدمة، في تقديري الشخصي المتواضع، وهو امتداد طبيعي لفظاعات تاريخية لم ترتكب في فلسطين فقط، بل في دول عربية من قبل غرب خطط لتبقى إسرائيل الاستعمار البديل المختصر (إن صح التعبير)، والعراق والجزائر ومصر أمثلة وقفتم عندها في كتابكم. لماذا يتحدث محللون كثر عن تغيير لا يخدم إسرائيل بمجرد تمكن حماس من اختراق حدود إسرائيل الأسطورة التي لا تهزم، وبسبب هزيمتها في حرب الصورة؟ موازين القوة التي ما زالت في صالحها جوهريًا في ظل غرب ماض في منع أي تقدم أو تقارب عربي… دليل على تفوقها الدائم، ودول التطبيع تتفرج على محرقة غزة، ويسعدها سحق حماس والإسلاميين بوجه عام. أليس كذلك؟
ما قامت به كتائب المقاومة في غزة لا يهدد وجود إسرائيل بالتأكيد، ولا يضعف من مستوى تفوقها العسكري. ليس- بالمقارنة مع إمكانات الشعب الفلسطيني، وإنما مقارنة بالدول العربية ذاتها، منفردة أو مجتمعة، وليس هذا هو الرهان في هذه المعركة. الرهان في هذه المعركة ليس على وجود إسرائيل، أو تفوقها، وإنما على إعادة تعريف دورها، وبالتالي حدود حرية حركتها ومبادرتها الإقليمية والدولية: هل ستدفع إسرائيل بشكل مباشر إلى أن تكون دولة طبيعية تخضع للقانون والشرعية الدولية، أو أن تبقى “سوبر دولة” لا تخضع في سلوكها لأي قانون، ولا يحد تطلعاتها وطموحاتها سوى ما تستطيع بلوغه بقوتها الذاتية والأميركية، وليست مضطرة إلى مراعاة ذمة ولا مصالح أي دولة أو شعب آخر في المنطقة. وهذا يعني أيضًا إجبارها على أن تغير من وظيفتها بوصفها دولة الاستيطان الاستعماري الزاحف ووكيلة مصالح الغرب والولايات المتحدة خصيصًا في هذه المنطقة، وكذلك سيفًا مسلطًا على شعوبها للسيطرة عليها وحرمانها من حقها في التقدم الحضاري والديمقراطية والعدالة، ودفعها إلى تقبل بأن تكون دولة طبيعية وظيفتها رعاية مصالح شعبها فحسب، ومن ثم السعي إلى التفاهم مع جيرانها لتحقيق التنمية والتقدم والحفاظ على السلام العالمي. هذا هو الصراع في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة.
طعنتم في كتابكم بحداثة مثقفين عرب فقدوا مصداقيتهم الفكرية، بحكم تقاطع خطاب بعضهم مع خطاب نتنياهو نفسه القائم على نظرية الصراع الحضاري الهنتنغوتينية العنصرية (نسبة إلى صاحبها صمويل هنتنغتون). ما تعليقكم في سياق فلسطيني تعود فيه المسألة إلى واجهة الحدث الفكري والسياسي؟
يبقى هؤلاء أقلية بين المثقفين الجادين، والواقع أنه في كل المجتمعات التي تعاني من سطوة الإمبريالية العسكرية- والإقتصادية والثقافية، هنالك دائمًا فئة من الأفراد، المثقفين وعير المثقفين، الذين يفقدهم الصراع الطويل، والفشل المستمر، ثقتهم بأنفسهم، ثم بشعوبهم وهويتهم، فيميلون إلى التماهي مع أعدائهم ليكسبوا اعتراف الغالب بهم، والتغطية على تبعيتهم بالارتداد على مجتمعاتهم، ووصفها بالتخلف، حتى يؤكدوا تقدمهم وحداثتهم، وأنهم جزء من العالم المتقدم ومجتمعاته، ولا يتردد هؤلاء أحيانًا في التكسب على حساب مآسي شعوبهم، ونقاط ضعفهم لنيل مزيد من الحظوة لدى أسيادهم.
في الجزائر الاستعمارية، كان البيض يسمون الجزائريين المنصهرين بهم، والمقتدين بسلوكهم بـ”المتطورين” لتمييزهم “.عنهم، وعن كافة الشعب “البدائيين” و”المتخلفين”.وهؤلاء نوع جديد من هؤلاء “المطورين
أنتم ترون بروز التيار الإسلامي بغض النظر عن أطيافه المختلفة نتيجة حداثة تتفاعل جدليًا مع الحاضر، ولا تمت بصلة للحداثة الرثة على حد تعبيركم. إنها الحداثة التي جعلت من الدين والتراث الحضاري شرطًا لدخول حداثة أضحت دينًا من دون عقل؟
بالفعل، ذكرت في أكثر من أكثر من مقالة وكتاب أن الإسلام الحركي المعاصر هو ظاهرة حديثة من حيث الشكل- والمضمون في التراث العقائدي والسياسي الإسلامي. كان ذلك في سياق الرد على ما يشيعه عدد من المحللين السياسيين والأيديولوجيين الذين يرون في بروز الحركات الإسلاموية إحياء لقيم الإسلام وعقائده بوصفه مذهبًا جامدًا لا يتحول. في نظري، الإسلام السياسي ظاهرة حديثة، ولا يمكن أن تظهر إلا في سياق الحداثة، لأنها تفرض أن السياسة مشاع لعموم الناس، وهي فكرة لم توجد من قبل في أي حضارة سابقة، وهذا ما يستدعي التنظيم في أحزاب تعمل على تعبئة الجمهور للوصول إلى السلطة، كما تفترض أن الهيئة الدينية، أو منتحلي مواقعها، والتي كان دورها يقتصر على القضاء والفقه أو التشريع، هم أصحاب السلطة الشرعية، ومن هنا أتت فكرة بناء سلطة ودولة إسلامية كما هو مجسد في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. هنا لا يختلف دور الإسلام كأيديولوجيا، أي كأداة تعبئة في خدمة الصراع على السلطة والهيمنة لا كدين، عما لعبته في بناء النظم السياسية الأيديولوجيات القومية، أو الماركسية، أو الشيوعية. والحال، أنه في التاريخ الوسيط، الإسلامي وغير الإسلامي، كان نموذج الدولة الإسلامية يقوم على خضوع رجال الدين لرجال السلطة، في الوقت الذي تقوم الدولة على القوة، أو الشوكة، أو السلطان، الذي يفرض نفسه بالقوة. لذلك قلت إن الحركات الإسلامية هي استلهام للسياسة الحديثة والدولة التي تجسدها. لكنها تدخل في مأزق عندما تتجاهل جوهرها السياسي وتستغل السلطة السياسية لخدمة العقيدة الدينية فتهدد بتخريب الدولة والدين بحرف كل منهما عن القيام بوظيفته الرئيسية. فالدين في الجوهر إيمان وعقيدة غايتها تربية الضمير، اما الدولة فهي اداة تنظيمية هدفها تأمين مصالح الناس الدنيوية ومنها حرية الاعتقاد الديني. ولا يبقى معنى للدولة إذا تخلت عن وظيفتها هذه لنشر فكرة او عقيدة. وكما أن الايمان لا يصح بالإكراه ولا يثمر به اخلاصا ولا التزاما بالشعائر الدينية لا تضمن الدولة إدخال أحد إلى الجنة مهما فعلت، لكنها تفقد أي مبرر لوجودها ما لم تضمن للناس والمجتمعات تحقيق شروط حياتهم الدنيوية. وربما تحكم على جميع من يبالغ في التمسك بسلطتها من دون ذلك بالوقوع تحت سياط غضب الناس وسخطهم، وربما سياطهم.
أدنتم المثقفين الذين قاموا بتسطيح الحداثة كما مر معنا، وأكدتم على خطورة مساندتهم أنظمة عربية قمعية برز فيها الإسلاميون في سياق فراغ أيديولوجي يؤكد أفق فشلهم الفكري. الإسلاميون كانوا في صلب الثورات العربية، رغم أنهم لم يكونوا في مقدمتها، وهي الثورات التي يقال إنها لم تفشل بل أفشلت. ما تعليقكم؟
بالتأكيد، لم يكن وراء الثورات العربية أي مطلب ديني، من دون أن يعني ذلك أن الجمهور الذي شارك فيه لم يكن- متدينًا، أو كان معاديًا للدين، وربما الإسلاميون هم الذين كانوا الأكثر ترددًا في الانخراط السريع فيها. فالمطالب العميقة التي حركت الناس كانت التحرر من الطغيان، ومن سيطرة مافيات المال والأعمال، ومن الاحتقار المزمن للشعوب وحقوقها ومصالحها ومعاملتها بوصفها شعوبًا متخلفة جاهلة لا تليق بها الحرية والعدالة وحكم القانون. والسبب أن جميع الشعوب تعيش اليوم، بالإضافة إلى تراثها الثقافي وقيمها الخاصة، في دائرة ثقافية عالمية أو عولمية أصبحت فيها ممارسة هذه القيم الإنسانية شرط كرامة الفرد ومنبع المعنى في الوجود الاجتماعي. غيابها يحدث فراغًا كبيرًا وجوعًا لا يمكن أن يسده أي خداع أيديولوجي علمانويًا كان أو دينيًا، ولا يستطيع أن يحول دون التطلع إليه أي قمع مهما كانت درجة عنفه.
ما يجمع الناس اليوم في العالم كله، ويجعل منهم أبناء حضارتهم الراهنة وعصرهم هو مشاركتهم هذه القيم، وحرمانهم منها لا يعني سوى حرمانهم من كرامتهم وانتمائهم إلى عصرهم وتجريدهم من إنسانيتهم وإعدام روحهم المدنية.
هل ثورات الربيع العربي التي لم تكتمل استنادا لكتابكم “ثورة لم تكتمل” كانت نتيجة إفشال ممنهج، أم أن كثيرًا من قادتها وقعوا في أخطاء قاتلة تتعلق بالزعامة والمصالح الخاصة التي قاموا من أجل محاربتها، وما هامش فرضية المؤامرة الخارجية في اندلاعها وفشلها في الوقت نفسه؟
لم تكن الثورات العربية إسلامية الطابع، ولا كانت ثورات هوية، كما أنها لم تكن بقيادات إسلاموية، ولم تلعب فيها- المنظمات الإسلامية، ومنها الإخوان المسلمين، دورًا رئيسًا، ولا من باب أولى دورًا رياديًا. كل هذا كررته وسائل الإعلام الغربية لتبرير قمع الثورات ورفض التضامن مع القائمين بها والتهرب من المسؤولية في إدانة عمليات القمع الدموية التي استخدمتها النظم المدعومة من الغرب لاحباطها. وقد استفادت بعض التيارات العلمانوية المتطرفة من هذه الدعاية الغربية، واستخدمتها حتى تغطي على فشلها في مواكبة ثورة الجمهور وفقدانها القيادة التي كانت تعتقد أنها من حقها لأنها ثورة حرية وتحرر بالدرجة الأولى، وهي التي كان من المفترض أن تقودها. والواقع أن سبب فشل هذه التيارات هو استسلامها، كما ذكرته في سؤالك لمنطق المنافسة فيما بينها وبين أفرادها ومتزعميها، حيث كان يقتضي الاتحاد والتوافق لتحقيق الهدف الأسمى. من هنا، لم تكتمل الثورات العربية، ولم تحقق أهدافها في التحرر السياسي الذي كان جوهر مطالبها، أولًا لرفض الدول الديمقراطية تقديم يد الدعم لها وإطلاقها، بل بالعكس، دعمت النظم العربية في القضاء عليها، وثانيًا لعجز النخب صاحبة قضية التحرر السياسي عن التفاهم والارتقاء إلى مستوى القيادة التاريخية فيها. وهذا ما ترك المكان فارغًا لتصدر عدد من التيارات الإسلاموية، وغير الإسلاموية، من الفتوات والجماعات الأجنبية الدخيلة لتصدر المشهد وإدارة التراجع والانهيار في المرحلة الثانية.
هل يحرجكم الأمر إذا طلبت منكم التحدث عن مسؤوليتكم الشخصية كمسؤول كان لوجوده وقع خاص بحكم ثقل ورمزية هويتكم الفكرية العلمانية، وهل في إمكانكم القيام بنقد ذاتي في شكل عجز على مواجهة قادة رأوا في وجودكم تناقضًا فكريًا لا يخدم هدفهم النهائي، أو العكس؟ وكيف تم ذلك عمليًا إذا حدث فعلًا من باب الافتراض؟
– كتاب “عطب الذات” لم يكن سوى رسالة اعتذار من قبلي شخصيًا، وبالنيابة عن كل من تعاون معي للناس الذين ضحوا بأرواحهم وممتلكاتهم، وعانوا من حرب الإبادة التي شنها نظام الحكم الأسدي على الشعب السوري. ولا قيمة للاعتذار إلا بما يقدمه للجمهور الذي تحمل المصاعب والمشاق والتضحيات من رؤية واضحة، وإبراز للحقائق وتفسير للأسباب ومواطن الخلل التي تسببت في الفشل ومحاولة التفكير في إصلاحها. هذا هو شرط إعادة الثقة للجمهور، واستعادته الثقة أيضًا بالنشطاء والقادة المناضلين. وأنا أعتقد أن إخفاق القيادات السياسية السورية في تقديم مثل هذا النقد والاعتذار هو الذي حال بينهم واستعادة ثقة الجمهور، وهو الذي ترك الساحة فارغة من القيادات السياسية إلى اليوم بعلمانييها وإسلاموييها.
الإسلاميون يعودون إلى الواجهة السياسية في ظل مواجهة حماس إبادة إسرائيل في غزة كأمر واقع يعيدنا في تقديري إلى الربيع العربي. فهل هي عودة بشكل أو بآخر في شكل تذكير بوجودهم على طريقة الكاتب فرنسوا بورغا، الذي قال لي قبل أكثر من عقدين: “لا عالم عربي من دون إسلاميين”، الأمر الذي يتقاطع مع قولكم إنهم ليسوا من طيف واحد، ولا شك في أنكم قصدتم الإخوان المسلمين الذين أصبحوا كما يقول بعضهم مثل المسيحيين الديمقراطيين، وبالتالي يؤمنون بالتداول الديمقراطي على السلطة، وغير محسوبين على الإرهاب حتما، كما يروج لذلك مثقفو الشاشات في أوروبا؟
ليتهم أصبحوا يؤمنون فعلًا بالتداول الديمقراطي على السلطة على شاكلة المسيحيين الديمقراطيين في أوروبا كما- ذكرت. هذا ما دعوتهم له منذ التسعينيات في كتابي “نقد السياسة، الدين والدولة”، وضرورة التمييز بين فعل الهداية الدينية، وهو مشروع للجميع، وفعل السياسة الذي يهتم بتنظيم المجتمعات عبر الدولة والمؤسسات تحت حكم قانون سياسي واحد. لم يحصل هذا بعد لسوء الحظ، وهو كان ولا يزال في نظري شرط توطين الديمقراطية في الأقطار العربية. أما في ما يتعلق بغزة، فبرأيي أن التعريف الصحيح للفعل الذي تقوم به المقاومة الإسلامية هناك هو شكل من أشكال حركة التحرر الوطني التي شهدت جميع الشعوب المستعمرة أمثلة كثيرة له. هذا هو جوهر ما يحصل في فلسطين، وفي غزة اليوم، بشكل واضح. لا يغير من هذا الجوهر أن تشرعن الحركة كفاحها بأيديولوجيا دينية، أو ماركسية لينينية، أو قومية، أو ليبرالية. أنا أنظر إلى الحركات الوطنية التي تدافع عن الحقوق الطبيعية والمشروعة لشعوبها من خلال الهدف الذي تسعى إليه، لا من خلال خطابها. فالأيديولوجيا الدينية يمكن أن تستخدم لأهداف متناقضة تمامًا: تحرير الأرض ضد المستعمر، أو صراع من أجل العدالة الاجتماعية، أو اقتتال لانتزاع السلطة والقضاء على الحريات الأساسية وفرض قيم قروسطية، أو شرعنة العنصرية، بل الإبادة الجماعية، كما تدعو إليه بعض الحركات الصهيونية المتطرفة. لذلك، لا ينبغي أن نكتفي في حكمنا ومواقفنا على الثياب التي تتغطى بها حركات المقاومة، وإنما ينبغي النظر إلى طبيعة صراعها، والغايات التي تسعى إليها. المتدين المستعمر (بكسر الميم)، الذي يقاتل من أجل إبادة شعب آخر، وسرقة أرضه، ليس كالمتدين الذي يستخدم الأيديولوجيا الدينية للدفاع عن أرضه وحقوقه الإنسانية. لا ينبغي للمظهر أن يحول دون إدراك الجوهر، مهما كان احتمال تأثيره فيه في المستقبل، ولا ينبغي المساواة بين المجرم والضحية بسبب تشابه الوسائل الأيديولوجية.
اجرى المقابلة بوعلام رمضاني
موقع ضفة ثالثة
Be the first to write a comment.