وقّع لبنان رسمياً، في 27 تشرين الأول / أكتوبر 2022 اتفاق ترسيم حدود بحرية مع إسرائيل، برعاية ووساطة أميركية. وإذا كان الاتفاق لم يُنهِ الجدال بشأن قضية الترسيم ككل، لتأكيد حصره بالحقول الغازية من ناحية، ولغياب الترسيم الحدودي البري الذي يستكمل الشق البحري من ناحية ثانية، إلّا إنه أسس لمرحلة جديدة على الحدود اللبنانية الجنوبية. فحزب الله باركه بصفته مكسباً وطنياً للبنانيين تمّ بفضل “المقاومة”، والحكومة الإسرائيلية السابقة اعتبرته ربحاً لتل أبيب ومصالحها، كما عدّته الإدارة الأميركية، ومن خلفها السلطات الفرنسية، منطلقاً للسلام والاستقرار ولازدهار اقتصاد البلدين المعنيّين (وأسواق الطاقة)، الأمر الذي يجعله اتفاقاً يتخطى في دلالاته وتداعياته السياسية الشأن التقني المرتبط بحقول الغاز والحقّ في استثمارها في شرق البحر الأبيض المتوسط.
من التعثّر إلى التوقيع
انطلقت المفاوضات غير المباشرة رسمياً بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية في 14 تشرين الأول / أكتوبر 2020، وعُقد في إثر ذلك أربع جولات في مقر الأمم المتحدة في رأس الناقورة، لم تفضِ حتى أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 إلى أي نتيجة. فالوفد اللبناني طرح بداية الخط الحدودي 23، بينما طرحت إسرائيل الخط 1، بما عنى خلافاً على 860 كيلومتراً مربعاً. ثم عدّل اللبنانيون طرحهم في 29 تشرين الأول / أكتوبر 2020 (مستندين في مطالعتهم الجديدة إلى الاتفاقية الدولية للبحار لسنة 1982، وإلى مبادئ اتفاقية “بوليه نيوكومب”/Paulet–Newcombe بين فرنسا وبريطانيا لسنة 1923)، وصار الخط اللبناني هو الخط 29 الذي يرفع المساحة المختلف عليها إلى 1430 كيلومتراً مربعاً. والأهم، أن الخط 29 يضمن للبنان حقل قانا بأكمله (حيث يُتوقع وجود غاز)، ويجعل اللبنانيين شركاء في حقل كاريش (حيث البحث أكد وجود كميات كبيرة من الغاز). ومن جهته اقترح الوسيط الأميركي السفير جون ديروشر خطاً بين الاثنين عُرف بخطّ هوف، نسبة إلى الدبلوماسي الأميركي فريدريك هوف الذي طرح هذا الخط في سنة 2012 حين حاولت الإدارة الأميركية بلا جدوى التوسط للوصول إلى ترسيم حدودي.
توقفت المفاوضات بعد ذلك، واستُعيض عنها بلقاءات أميركية – لبنانية من ناحية، وأميركية – إسرائيلية من ناحية ثانية. وبين آذار / مارس ونيسان / أبريل 2021، قدّمت قيادة الجيش اللبناني خرائط مفصلة للمناطق المتنازع عليها، وأعلنت الحكومة اللبنانية أن الخط 29 هو الخط الوحيد الممكن التفاوض عليه.
في 4 أيار / مايو 2021 استؤنفت المفاوضات، وضغط الأميركيون للعودة اللبنانية إلى الخط 23. وتبع ذلك توتر وتراشق في المواقف، وتباينات داخلية لبنانية على صلة بتشكيلة الوفد المفاوض أحيل خلالها رئيس الوفد العسكري العميد بسام ياسين إلى التقاعد. وفي تشرين الثاني / أكتوبر 2021، عيّنت واشنطن وسيطاً أميركياً جديداً هو الدبلوماسي عاموس هوكشتاين الذي زار المنطقة ساعياً لحلحلة الأمور، بالتوازي مع ما سُرّب عن تقدّم في المفاوضات الأميركية – الإيرانية بشأن البرنامج النووي والعقوبات.
لكنّ الأمور ظلت على مراوحة لأشهر، إلى أن أصدر الرئيس اللبناني ميشال عون بعد لقاءات ومشاورات داخلية وخارجية في شباط / فبراير 2022، موقفاً مفاجئاً وافق فيه على التراجع عن الخط 29 والقبول بالخط 23 خط حدود بحرية مع إسرائيل، الأمر الذي أدى إلى خلافات داخل الوفد اللبناني المفاوض، وصرّح العميد بسام ياسين “أن التراجع عن الخط 29 خيانة عظمى.”
وبين آذار / مارس وأيلول / سبتمبر 2022، وعلى وقع الحرب الروسية على أوكرانيا من جهة، وتراجع احتمالات الوصول إلى اتفاق أميركي – إيراني من جهة ثانية، بدا أن سباقاً يجري بين توقيع اتفاق لبناني – إسرائيلي، وبين التصعيد الذي رافقته تهديدات ومناورات عسكرية إسرائيلية ونشر حزب الله لإحداثيات ترتبط بحقل كاريش وإرساله مسيّرات في اتجاهه أسقطتها إسرائيل.
في تشرين الأول / أكتوبر 2022، وبعد ضغوط أميركية إضافية ورسالة من هوكشتاين إلى المسؤولين اللبنانيين تنذرهم بتبعات التصعيد مع إسرائيل، وعشية انتخابات إسرائيلية، تَحوّل الاتفاق المحتمل إلى مادة للمزايدة. وقبيل نهاية ولاية ميشال عون الرئاسية التي شهدت أكبر انهيار اقتصادي ومالي، وأسوأ ظروف سياسية في تاريخ الجمهورية، وافق لبنان على الاتفاق مع إسرائيل على أساس الخط 23. وجرى التوقيع في 27 تشرين الأول / أكتوبر، وفق شروط سنتوقف عندها في الفقرات التالية.
الاتفاق والأحوال اللبنانية والدولية
نصّ الاتفاق[1] المرعيّ أميركياً إذاً، على الخط 23 كخط ترسيم بين البلدين، الأمر الذي يعني تَراجُع إسرائيل عن الخط 1، وتراجُع لبنان (مثلما سبق أن أعلن عون) عن الخط 29، وتعديل أميركا لاقتراحها الذي اشتُهر بخطّ هوف. لكن ذلك عنى أيضاً استفادة إسرائيل بالكامل من حقل كاريش، ودخولها شريكاً في حقل قانا من خلال حصولها على تعهّد بأن تسدد لها الشركة الدولية التي ستستخرج الغاز منه نسبة مئوية. وفعلاً، وقّعت تل أبيب (في 15 تشرين الثاني / نوفمبر) عقداً مع شركة توتال الفرنسية وشريكتها الإيطالية اللتين كُلّفتا لبنانياً بالتنقيب عن الغاز في البلوك 9 حيث حقل قانا.[2] ولم ترشح معلومات عن تفصيلات هذا العقد، علماً بأن لبنان وإسرائيل كانا قد وافقا في الاتفاق على تكليف الشركة أو الشركات المشغلة بتقدير النسب المئوية التي ستُمنح لكل منهما.
ومن الضروري التذكير هنا بأن الاتفاق اللبناني – الإسرائيلي أكد أن لا شركة خاضعة لعقوبات دولية يمكن التعاقد معها للتنقيب أو التصدير. والهدف هو طبعاً حظر التعاون اللبناني – الإيراني أو اللبناني – الروسي، وجعل الشركات المنقبة غربية أو مستقلة عن أي طرف يُعدّ ممالئاً لحزب الله. كما حدد الاتفاق أميركا وحدها وسيطاً أو ميسّراً أو مرجعاً لحلّ الخلافات التي يمكن أن تطرأ خلال التنقيب والاستخراج والتصدير، بما لا يتيح آليات تحكيم واضحة أو مستندة إلى قوانين دولية معمول بها، بل إلى ما يمكن لواشنطن أن تقترحه أو تفرضه.
وفيما هو أبعد من تفصيلات الاتفاق وبنوده، فإن من المفيد شرح المعطيات الدولية والإقليمية والداخلية التي دفعت باللبنانيين، وتحديداً الطرف المقرر بينهم، أي حزب الله، إلى القبول بالاتفاق.
ويمكن هنا الحديث عن ثلاثة مستويات:
المستوى الأول على صلة بالأوضاع الدولية. فالحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية ذات الصلة بالطاقة والعقوبات الأوروبية والأميركية على موسكو، دفعت العواصم الغربية إلى البحث عن مصادر طاقة جديدة. ولا شك في أن الحوض المتوسطي هو الأكثر استراتيجية في هذا البحث لتوفّر الغاز في دوله الجنوبية (مصر وليبيا والجزائر)، ولقربه من أوروبا. وكل تنقيب مضمون جديد (قبالة إسرائيل وقبرص وربما قبالة لبنان) فيه مسألة حيوية وأولوية غربية.
وإذا كانت إسرائيل جاهزة للتعامل مع هذا الأمر وحضّرت بُنية تحتية للاستفادة الاقتصادية منه بأسرع وقت ممكن، فإن حزب الله عدّه فرصة لفرض نفسه كفاعل سياسي في هذه المعادلة، تعترف العواصم الغربية بدوره، وتُضطر إسرائيل إلى التعامل غير المباشر معه. وهو قَبِل بالتالي باتفاق مشروط ومجحف للبنانيين (الذين ربما لا يجدون كميات غاز مهمة في البلوك 9)، ليصبح في قلب معادلة دولية تحرص على الاستقرار في منطقة قد تصدّر كثيراً من الطاقة إلى أوروبا.
المستوى الثاني يرتبط بالأحوال الإقليمية. فما بدا واضحاً عند إعلان توقيع الاتفاق هو التراجع في فرص توقيع اتفاق آخر، أعمق أثراً في أحوال المنطقة والعالم، هو الاتفاق النووي بين إيران والغرب. وما بدا جلياً في أهداف حزب الله، الموافَق عليها أو المدفوع إليها إيرانياً، هو الرغبة في إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع واشنطن، والتوظيف “الإيجابي” للورقة التفاوضية اللبنانية، عوض التوظيف “السلبي” لها، في مسار تسهيل العودة يوماً ما إلى التفاوض النووي. وقد تكون طهران آثرت تمكين حليفها الإقليمي الأقوى من التحرك وفق مقتضيات المرونة والمصلحة الأمنية، لتجنّب السياقات الحربية راهناً، والمحافظة على قوته العسكرية للتعامل لاحقاً مع احتمالات التصعيد، إن حدثت.
يضاف إلى ذلك أن التحذير الأميركي المنقول مباشرة إلى المسؤولين اللبنانيين لجهة تجنّب الصدام لأن الحرب مع إسرائيل ستكون مدمرة في وقت يعاني لبنان انهياراً اقتصادياً ومالياً غير مسبوق، والاستعجال الحكومي الإسرائيلي للتوقيع قبل الانتخابات التشريعية التي مهدت الطريق لعودة نتنياهو إلى الحكم من جديد، وهو المجاهر بمعارضته (ولو ديماغوجياً) للاتفاق، التقطهما حزب الله أيضاً فأعطى الضوء الأخضر للتوقيع لبنانياً.
وهذا يوصلنا إلى المستوى الثالث، أي المحلي. فلا شكّ في أن توقيت التوقيع قبل خروج عون من قصر بعبدا كان هدية من الحزب الشيعي له ليستطيع الحديث عن “إنجاز” في عهده، بمعزل عن تفصيلات هذا “الإنجاز”، في ظل الانحدار المروع الذي عرفه البلد في الأعوام الأخيرة. ولا شكّ أيضاً في أن حزب الله يدرك أن حاضنته الاجتماعية تفضّل اتفاقاً يقيها شرور المعارك والخراب والتهجير، وهو فوق ذلك، يستطيع إقناع جزء من الحاضنة إياها ومن الرأي العام اللبناني، بفضل سلاحه وتهديداته، بـ “انتزاع” الاتفاق الذي قد يدرّ على لبنان مستقبلاً أموالاً تخفف من محنته. وليس تفصيلاً أن الأمين العام لحزب الله وإعلام الحزب وحلفاءه حاولوا تصوير الاتفاق كمكسب فرضه الحزب بالسلاح (“الحامي بالتالي للبنان ومصالحه”).[3]
حزب الله البراغماتي خارجياً والمتسلط داخلياً
يُظهر ما جرى أن الأحوال الدولية والإقليمية والداخلية أَمْلَت على حزب الله براغماتية دفعته إلى القبول بالاتفاق مع إسرائيل، وأن الحزب أرسل إلى الداخل اللبناني والخارج على حدّ سواء مجموعة رسائل فحواها أنه المقرِّر والآمر الناهي في مسائل السياسة الخارجية والأمن اللبنانيَّين، وأنه قادر على التطبيع والتكيف مع الشروط الصعبة وعلى التعامل بواقعية مع المطالب الأميركية والإسرائيلية، وعلى دفع الدولة اللبنانية إلى توقيع ما يراه “مقبولاً”، بعد استعراض سلاحه وادعاء قدرته على عرقلة التنقيب الإسرائيلي إن بدأ قبل الاتفاق معه. وهو أفاد بذلك أنه مرِن إلى الحدود القصوى التي تلائمه خارجياً، تماماً مثلما هو متسلط ومتشدد إلى الحدود القصوى داخلياً حيث لا مجال لمعارضته أو للاختلاف معه من دون التعرض لاتهامات التخوين والعمالة للخارج، أي للخارج إياه الذي وقّع الحزب الاتفاق معه.
هذا اللين مع الخارج والتصلب مع الداخل ليس جديداً في السياق اللبناني، فهو يذكّر بسياسة الرئيس الراحل حافظ الأسد حين أدار شؤون البلد الذي احتله جيشه على مدى أعوام طويلة. فالأسد الأب كان يجيد الازدواجية فيما يتعلق بالخارج والداخل من ناحية، وكان لا يساوم داخلياً على الأمن والسياسة وعلى العلاقات الخارجية ولا يسمح بشراكة، تاركاً الاقتصاد والمالية ومشاريعهما من ناحية ثانية حقل تنازع مغانم بين جماعاته ومنافسيهم.
يبقى أن نضيف هنا أن توقيع الاتفاق بين لبنان (أو حزب الله) وإسرائيل انعكس انفراجاً معنوياً، وارتفاعاً (قد يكون موقتاً في انتظار التطورات المقبلة) في أسعار الأراضي والعقارات في أكثر المناطق اللبنانية الجنوبية وفي كامل الساحل اللبناني الممتد من الناقورة حتى الحدود. وهذا يعني أن الانطباع العام القائم في الجنوب اللبناني هو أن الاتفاق يحول دون احتمالات الحرب أو الصدام العسكري الواسع النطاق لفترة غير قصيرة.
السؤال المطروح في أوساط الخبراء والتقنيين الآن، بعد التوقيع، هو عن الكميات الغازية (والنفطية) الموجودة فعلاً في حقل قانا، وعن نوعيتها وسهولة استخراجها وتكلفة هذا الاستخراج والتكرير وسبل تصديرها في ظل النقص الفادح في التجهيزات وفي البُنية التحتية اللبنانية. وسيلي ذلك سؤال عن أشكال التعامل مع شركة توتال وشركائها ومع إسرائيل نفسها، ثم مع قبرص التي لا تبعد حقولها كثيراً، والتي سبق أن أنجزت اتفاقات مع إسرائيل. كما هناك الحدود البحرية مع سورية التي يُفترض الاتفاق عليها، وهي تخصّ قبرص أيضاً، وهناك مشاريع التعاون التي تدعو إليها مصر من أجل خلق منظومة إقليمية للتنسيق يُتوقع أن تكون إسرائيل جزءاً منها. فما الذي سيفعله لبنان مستقبلاً؟ وإذا تبيّن وجود كميات من الغاز يمكن تصديرها، فكيف ستُدار العوائد ومَن سيديرها؟ وكيف يمكن مراقبة ذلك كله في بلد أفلسه الفساد، ولا سيما أن الطبقة السياسية التي تُعدّ العدّة للإشراف على العائدات الجديدة هي نفسها المتهمة بهذا الفساد وبسوء الإدارة؟
لن يكون هناك قريباً إجابات عن هذه الأسئلة المطروحة، لأن عمليات البحث والتنقيب، ثم الاستخراج والتصدير، إن حدثت، تتطلب أعواماً. والأزمة اللبنانية العميقة ستستمر خلالها إذ ليس ثمة آفاق لحلول أو تغييرات اقتصادية وسياسية ظاهرة في المقبل من الأيام.
المصادر:
[1] لقراءة نص الاتفاق الأصلي بالإنجليزية، يمكن مراجعة يومية “لوريان توداي” (L’Orient Today) اللبنانية في 12 تشرين الأول / أكتوبر 2022، في الرابط الإلكتروني.
[2] لمزيد من المعلومات عن الاتفاق بين الإسرائيليين وشركة توتال وشريكتها، يمكن الاطلاع على الخبر المنشور في صحيفة “لوموند” الفرنسية في 15 تشرين الثاني / نوفمبر 2022، في الرابط الإلكتروني.
[3] يمكن الاستماع إلى تصريح الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في 29 تشرين الأول / أكتوبر 2022، في موقع “المقاومة الإسلامية – لبنان”، في الرابط الإلكتروني.
مجلة الدراسات الفلسطينية
Be the first to write a comment.