الخبر عادي: اتصال وزير الخارجية الإيراني بنظيره الروسي. غير العادي فيه أن حسين أمير عبداللهيان هو الذي أكد لسيرغي لافروف، وليس العكس، أن “روسيا ستتجاوز الأحداث” الناجمة عن تمرّد قائد “قوات فاغنر” وقواته على قيادة الكرملين. أما مصدر الثقة عند عبداللهيان فهو “دعم إيران سيادة القانون في كل البلدان، بما في ذلك روسيا الجارة والصديقة”. لكن هذا “الدعم” يخضع لاستثناءات كثيرة عندما يتعلّق الأمر بتحصين الميليشيات الموالية لإيران، التي لا تكتفي بانتهاك الدساتير والقوانين في أربعة بلدان عربية، بل تهدّد الدولة وتخترق أجهزتها الأمنية وقواتها المسلّحة بممارسات مستوحاة من “عقيدة فاغنر” أو متجاوزة لها.
يشير الاتصال الإيراني، وقبله الاتصال بين رجب طيب اردوغان وفلاديمير بوتين، الى أن شيئاً من الخوف اعترى تركيا وإيران بالنظر الى مراهنتهما على روسيا- بوتين، ولا يجاريهما في هواجسهما سوى بيلاروسيا والشيشان اللتين أصبحتا من الأدوات البوتينية مضمونة الولاء، حتى أن الزعيم الشيشاني رمضان قديروف استعدّ لإرسال قوات لمقاتلة تمرّد يفغيني بريغوجين، إلا أن الرئيسى البيلاروسي الكسندر لوكاشينكو هو مَن توسّط مع بريغوجين وأقنعه بإنهاء حركته “حقناً للدماء” ومنحه ملاذاً آمناً بعدما وافق الكرملين على اسقاط القضية الجنائية المرفوعة ضدّه وعلى عدم ملاحقة مقاتلي “فاغنر” إذ لم تنتهِ الحاجة اليهم في العديد من البلدان العربية والافريقية، مثل ليبيا والسودان وسوريا وافريقيا الوسطى ومالي. لكن مشكلة “فاغنر” في روسيا نفسها وعلاقتها مع مؤسسات القيادة ستمرّان بمرحلة إعادة ضبط، فضلاً عن تحديد مصير قائدها الذي بات لاجئاً في بيلاروسيا.
المفارقة أن بريغوجين كان وعد بـ “ثورة شبيهة بثورة 1917” لإطاحة بوتين، وبعدما اتهمه بوتين بـ “الخيانة” ووصف تحرّكه بأنه “طعنة في الظهر” ما لبث أن شبّه تمرّده بالانقلاب البلشفي في 1917 الذي “سرق” انتصار روسيا في الحرب العالمية الأولى، وكأن “انقلاب بريغوجين” يريد أن “يسرق” الآن انتصارها في أوكرانيا. وما دام الرجلان عادا الى اللحظة التاريخية ذاتها لتوصيف وضع مستجدٍّ فقد أصبح من الطبيعي، فجأة، أن يُسلّط الضوء على مئة عام ونيّف من تاريخ روسيا، كما لو أنها دولة اضطرابات لا تزال باحثة عن استقرارها. صحيح أن بوتين نفسه استعاد سابقاً أحداث القرن في معرض تبريره لغزو أوكرانيا إلا أنه استند خصوصاً الى سقوط الاتحاد السوفياتي بدءاً من 1989 باعتباره الحدث المؤلم الذي أصاب روسيا في كبريائها وكرامتها وحفّز الغرب ضدها، لكن اللافت أنه في مقاربته لتمرّد طباخه السابق لم يشر الى “نيات الأعداء” وعملهم على تفتيت “الاتحاد الروسي”، بل أبقاه “شأناً داخلياً” كما وصفه خصومه وأصدقاؤه.
المواجهة التي شهدتها موسكو لأقلّ من أربع وعشرين ساعة لم تختلف كثيراً عمّا يواجهه بعضٌ من الدول مع ميليشيات نشأت أو أنشئت محلياً بفعل الحاجة أو نتيجة تناقض في الأحداث. الفارق الكبير والمهمّ أن الدولة الروسية أقوى من أي ميليشيا، ولا شكّ أن قائد “فاغنر” كان يعرف هذه الحقيقة، لذلك أثير التساؤل عمّا إذا كان راهن على تحرّكات أخرى مماثلة ومتزامنة لمواكبة تمرّده، وعندما وجد أنه وحيد تلقّف وساطة لوكاشينكو موقناً بأن بوتين مصدرها وأن “القيصر” يمنحه الفرصة الأخيرة للنزول من أعلى شجرة أوهامه. تصرّف بريغوجين أولاً بعقلية “العصابة” التي صدّقت أنها دُعيت الى “واجب وطني” في أوكرانيا وعندما ادركت أنها استُخدمت وقوداً لنار باخموت أرادت الانتقام من الكرملين والجيش اللذين تسبّبا لها بخسائر لم تعرف مثيلاً لها سابقاً إلا في واقعة واحدة مع الاميركيين سوريا (2018)، ولم تتكرّر. وعندما قبل بريغوجين التسوية فإنه تصرّف على حقيقته، بعقلية “المرتزقة”
طوال ساعات التمرّد وعلى وقع زحف “الفاغنريين” نحو موسكو، حفلت الفضائيات العربية والغربية بآراء المحللين الروس الذين سفّهوا تحرك بريغوجين متوقّعين نهايته قريباً. والأهم أنهم لفتوا الى استحالة انضمام وحدات من الجيش إليه، ومع أن بعضاً منهم لم ينفِ بالمطلق وجود نقمة داخلية بسبب تداعيات حرب أوكرانيا، إلا أن المراهنة على تغيير يأتي من طريق “فاغنر” وبريغوجين تبقى شيئاً آخر، فإذا كان الروس يعتقدون عموماً بأن ثمة “مافيا” تحكمهم فلا جدوى من التعويل على “عصابة مرتزقة” كبديل منها. أما خارج روسيا فإن الآراء الغربية راوحت بين الترقّب والحذر والتمنيات، على رغم أن المفاضلة بين الرجلين- بوتين وبريغوجين- لم تبدُ وازنة ولا واعدة، إلا في ما يمكن أن تعكسه على حرب أوكرانيا وعلى معنويات كييف التي اعتبرت أن ما يحصل دليل الى “ضعف بوتين”. في المقابل انطلقت قلّة من المعلّقين العرب في بثّ توقعاتها “الجازمة” بأن نهاية نظام بوتين قد أزفت.
بالطبع ساد العواصم الغربية قلقٌ وصمتٌ، فلدى كلٍّ منها معطيات مسبقة عن “فاغنر” وجماعات معارضة، لكن لم يجرِ اختبارها. جاء التعليق الوحيد من رئيس الوزراء البريطاني الذي حثّ مجموعة “فاغنر” والقوات الروسية على “التصرّف بمسؤولية وحماية المدنيين”، وكان فيه حرص انساني أقلّ مما فيه من استفزاز للقيادة الروسية لأنه انطوى على توقّع بأن المواجهة واقعة وأن سحق التمرّد سيكون بالغ الدموية. أما المشاورات داخل الإدارة الأميركية، وبين واشنطن والحلفاء، فبقيت صامتة واكتفت بتجديد التضامن في دعم أوكرانيا، ما عنى عملياً ميلاً الى أن شيئاً لم يتغيّر وأن “ثورة فاغنر” لا تعدو كونها “انذاراً كاذباً” لا يُعتمد عليه. لكن المشاورات فتحت في السياق ملف الاحتمالات وما إذا كان الحدث يوفّر مؤشرات الى صراع داخلي وشيك أو مواجهات مسلّحة قابلة للتطوّر، وفي حالٍ كهذه ما السيناريوات التي يجب التهيّؤ لها.
طالما أن المفاضلة بين خيارَيْ بوتين وبريغوجين لا تستحق الاهتمام فقد بدا انشغال روسيا بالنار المشتعلة داخلها، لو حصل، احتمالاً مريحاً ومرحباً به غربياً، بل يمكن التفكير بإذكاء تلك النار وتغذية الفوضى. ومع افتراض أن ثمة عوامل داخلية عدّة تدفع باتجاه اعتبار الحدث الفاغنري نوعاً من الإرهاص لما سيأتي لاحقاً، إلا أن القوى الغربية لم ترَ موجباً للتدخل، ولو بمجرّد الإدلاء بتقديراتها للوضع الروسي. فالمقلق فعلاً كان ولا يزال الخطر النووي الذي جعلته روسيا- بوتين أمراً واقعاً، وربطت استخدامه بالتصدي لأي “خطر وجودي” قد تتعرّض له.
النهار العربي
Be the first to write a comment.