بدا المشهد الفرنسي مساء الأحد مثيراً، فلقد انقسم الفرنسيون إلى ثلاثة أثلاث:
ثلث للهزيمة التي منيت بها مرشحة اليمين المتطرف، التي اعتقدت أنها تستطيع اقتناص النصر بسبب الإحباط ورفض تسلطية إيمانويل ماكرون وسياساته الاجتماعية والاقتصادية. هُزمت مرشحة اليمين العنصري، لكنها أصرت على تغليف هزيمتها بلهجة انتصارية على الطريقة الفاشية التقليدية.
وثلث للشعور بضرورة إقامة سد في وجه اليمين العنصري المتطرف، فصوَّت على مضض لمرشح وسط اليمين كمدخل لإعداد أرض معركته ضده في الانتخابات التشريعية التي ستجري في 12 و19 حزيران-يونيو.
وثلث منتصر، لكن انتصاره يحمل نكهة هزيمة مضمرة. فماكرون يعلم أنه فقد سحر البداية، وأنه انتصر كي لا ينجح اليمين المتطرف. أي أن انتصاره كان سلبياً، وسببه الأساسي هو منع العنصريين من تهشيم المجتمع الفرنسي.
ثلاثة هزائم هي حصيلة الانتخابات الفرنسية، وهنا تكمن أهميتها، ففرنسا التي فقدت الكثير، لا تزال تحمل طابع المؤشر الأكثر دقة في التعبير عن المرحلة التاريخية التي يمر فيها العالم.
المراقب لمسار انتخابات الرئاسة الفرنسية يصاب بالذهول؛ فجميع المرشحات والمرشحين تكلموا مستخدمين قاموساً يحيل إلى زمن كانت فيه فرنسا قوة عظمى. صحيح أن دور القوة العظمى تلاشى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن الديغولية التي بعثت من أتون الحرب الجزائرية، أعادت تلك اللغة إلى التداول، فبدا ديغول وكأنه القائد التاريخي الأخيرالقادر على استعادة الدور الذي أفل.
غير أن فرنسا التي فقدت دورها المؤثر في السياسة، استطاعت أن تحتفظ بوضعها كقوة عظمى ثقافية تستند إلى إرث فكر الثورة الفرنسية من جهة، وإلى إنتاج ثقافي اجتاح الثقافة العالمية في النصف الثاني من القرن العشرين. من سارتر إلى فوكو، ومن المسرح العبثي إلى الرواية الجديدة ورولان بارت، ومن لويس ألتوسير إلى جاك دريدا، وصولاً إلى بورديو.
فرنسا التي سحرت مثقفي العالم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وشكلت أطراً فكرية ونظرية لإعادة النظر في كل شيء، كانت المكان الذي اشتعلت فيه ثورة 1968 الطلابية، التي كانت آخر صرخة بحث واحتجاج على المستوى الثقافي والفكري، في عالم كان على مشارف تغيرات كبرى.
المفارقة أن باريس استطاعت أن تجعلنا ننسى تاريخ فرنسا الكولونيالي الدموي في المشرق والمغرب العربيين. كنا طلاباً سحرتنا الأفكار الثورية التي صارت باريس وطنها، بعد خيبة الأمل من النموذج السوفياتي الذي خنق الثقافة والفكر بآلة قمع رهيبة لا علاقة لها بالرؤية الثورية التحررية لماركس.
في أزقة الحي اللاتيني، كانت منشورات ماسبيرو محجتنا، فأعدنا اكتشاف العالم بعيون جديدة، ولم ندر يومها أن ما اعتقدناه بداية، كان اختلاجات النهاية، التي اتخذت بعد ذلك شكل ما سُمي بالفلاسفة الجدد، ومعهم بدأ اللمعان الثقافي الفرنسي يخبو.
لم يكن في استطاعة الثقافة الراديكالية الفرنسية أن تقف سداً في وجه عالم بدأت ملامحه الجديدة تتكشف مع التاتشرية والريغانية، أي مع يمين، كان مؤشراً على عالم جديد عولمته الرأسمالية والنيوليبرالية على طريقتها. وبدأ الانحدار نحو ما أطلق عليه اسم حرب الحضارات، التي وجدت في الإسلام الأصولي الذي نما في الأحضان الأمريكية خلال المرحلة الأخيرة من الحرب الباردة، عدوها، قبل أن يتعدد الأعداء، ويتم وضع العالم على شفير حروب مفتوحة على الهاوية.
لم يخطر في بالنا يوماً أن الثقافة الفرنسية يمكن أن تنحدر إلى مستوى برنار هنري ليفي أو ويلبيك، وأن فرنسا يمكن أن تصاب بلوثة العنصرية.
لا أسعى إلى تجميل الأشياء، فالحروب الكولونيالية الفرنسية من فيتنام إلى الجزائر لم تكن سوى أحد أشكال العنصرية، لكن صوت فرانز فانون الذي قدم سارتر لكتابه «معذبو الأرض»، كان نقطة ضوء رفضنا أن نصدّق بأنها يمكن أن تخبو.
غير أن باريس التي بدأت تفقد صفتها كعاصمة عالمية للثقافة وتحل في مكانها مدن أوروبية أخرى كبرلين، بقيت مؤشراً يرسم بحساسيته الخاصة ملامح الوجهة العامة في العالم الذي لا يزال الغرب يشكل مركزه.
باريس عاشت بالأمس اختباراً كبيراً في انتخاباتها الرئاسية، وكان على فرنسا أن تختار بين السيئ والأسوأ، وبدت الأمور في البداية وكأنها تتدحرج إلى الأسوأ في تصويت عقابي، لكن السيئ انتصر في النهاية.
يجب أن لا يحجب السيئ المنتصر الأفق الذي فتحته الانتخابات الفرنسية، عبر بداية صعود لليسار الراديكالي الذي صوت لميلانشون في الدورة الانتخابية الأولى، وكان تشرذمه السبب الوحيد الذي سمح لمارين لوبين بالوصول إلى الدورة الثانية.
التغلب على تشرذم اليسار بمكوناته القديمة التي تضم ما تبقى من الشيوعيين وبعض الحزب الاشتراكي والخضر دونه صعوبات كبيرة، لعل أهمها هو إقناع ميلانشون بفضيلة التواضع، وبضرورة التخلص من إرث إعجابه القديم ببوتين الذي قاده إلى موقف مخزٍ من المأساة السورية.
تكمن أهمية المؤشر الفرنسي في أنه أعاد إضاءة شعلة اليسار التي خبت في كل مكان، بعد انتصار التيارات النيوليبرالية في أوساط الاشتراكيين الديمقراطيين وتحلل الأحزاب الشيوعية بعد الانهيار السوفييتي الكبير.
استعادة اليسار لدوره وفاعليته وقدرته على تقديم أفق سياسي سوف تعني بداية اصطفاف جديد للقوى، يقود إلى معارك ضارية بين اليسار واليمين العنصري الفاشي، على المستويات السياسية والثقافية والاقتصادية.
صحيح أن فرنسا لم تعد قوة عظمى من زمان، لكن استعادة الأفق اليساري الديمقراطي، سوف يعني على الأقل أن الثقافة التي أنتجت فكر الثورة الفرنسية وتجربة كومونة باريس، تستطيع أن تستعيد دورها في هذا الصراع الكبير الذي يدور في عالم اليوم في مواجهة البربرية الرأسمالية الزاحفة.
من بيروت التي عاشت بالأمس جريمة رمي فقراء طرابلس في البحر وإغراقهم بوحشية، كنا نراقب المؤشر الفرنسي ونحن نشعر بالخوف من صعود اليمين العنصري. خوفنا الفرنسي لم يكن سوى محاولة للتحايل على المرارة والأسى أمام مشهد لبناني جعلنا نشعر بأننا صرنا غرباء ومنفيين في بلادنا.
Be the first to write a comment.